مشروع إصلاح القضاء .. مدونة الأحكام القضائية
المفروض أن يكون مشروع خادم الحرمين الشريفين لإصلاح القضاء قد استكمل كل بنوده مع مطلع السنة الميلادية 2016، ويكون القضاء في المملكة العربية السعودية قد بلغ درجة من المثالية.
ورغم أن مشروع الإصلاح استغرق عشر سنوات وكلف الدولة سبعة مليارات ريال، وهي مدة كافية ومبلغ كاف لإصلاح القضاء، إلاّ أن بعض بنود الإصلاح المهمة مازالت في طور عمليات الإصلاح.
ويعتبر مشروع مدونة الأحكام القضائية من أهم بنود إصلاح القضاء إلا أن هذا البند مازال بعيدا عن مراحل الإنجاز النهائي، ومازالت الاجتماعات المتواصلة بين الجهات المنوط بها إنجاز المشروع تعقد حثيثا لاستكماله.
والحقيقة إن القضاء السعودي كان يجب أن يكون له مدونة تضبط الإيقاع العام للأحكام الشرعية حتى لا يذهب القضاة في أحكامهم في اتجاهات متناقضة، وهو ما حدث بالفعل لعدد من القضايا المنظورة في المحاكم، وأسوق على سبيل المثال قضية صغيرة في الأحوال الشخصية في جدة وقفت على كل تفاصيلها الأسبوع الماضي، والقضية تتعلق بالحضانة فقد صدر حكم من محكمة الأحوال الشخصية يقضي بحضانة فتاة لأمها وليس لأبيها رغم أن الأم متزوجة وللزوج ابن شاب من زوجة أخرى يعيش معه، ووالد الفتاة كامل الأهلية، ليس هذا فحسب بل إن الفتاة تبلغ من العمر الـ15 ربيعا وبلغت الحلقوم ومكتملة البلوغ، ولقد صدرت آلاف القضايا في مثل هذه الحالة بحضانة الفتاة لأبيها وليس لأمها، ولذلك هذا الحكم يناقض السياق العام لقضايا الحضانة في محاكم المملكة العربية السعودية.
ولقد شكا والد الفتاة إلى المحكمة العليا أنه يخشى على ابنته من زوج أمها، ومن ابنه البالغ الذي يعيش في كنف والده ومع زوجة أبيه، ولكن رغم ذلك صدر الحكم بحضانة الفتاة لأمها وليس لأبيها.
ولو كانت هناك مدونة للأحكام القضائية لاستنار القاضي بما فيها من أحكام، ولما خرج عن السياق العام للأحكام في مثل هذه القضايا، حيث إن السوابق في موضوع الحضانة تضع مصلحة الفتاة في المقام الأول، كما أن زواج أمها ووجود ابن زوجها البالغ معه في البيت مع أهلية والد الفتاة، وكذلك بلوغ الفتاة سن الـ15، هذه أمور كفيلة بأن يكون الحكم بالحضانة للأب وليس للأم.
هذه القضية واحدة من قضايا عديدة تصدر أحكامها من محاكمنا السعودية برؤى مختلفة، بل بأحكام متناقضة لا تتناغم مع مثيلاتها من قضايا الحضانة، فأنا أعرف قضايا حضانة وضعت الفيصل بين حضانة الأم وحضانة الأب هو زواج الأم أو بلوغ الفتاة سن الثامنة من عمرها، مع توافر مناخ أسري مريح وآمن للفتاة في بيت أبيها، إضافة إلى قضايا الحضانة هناك قضايا الإرث التي أصبحت من القضايا الشائعة في حياتنا اليومية.
لذلك كان يجب أن يتضمن برنامج إصلاح القضاء السعودي الخروج بمدونة للأحكام ترسم الخطوط العريضة لموقف القضاء السعودي إزاء القضايا العامة في حياة مجتمع المملكة العربية السعودية.
أيضا من الملاحظات التي نلاحظها على مشروع إصلاح القضاء هو أن المشروع لم يمر على مسألة تطبيق مبدأ العدالة في توزيع وظائف القضاء على جميع فئات المجتمع، بل ظلت الوظائف مرهونة لفئات بعينها رغم أن شعار محاكمنا الذي نحفظه عن ظهر قلب هو "العدل أساس الملك"، نعم العدل في كل شيء حتى في توزيع الوظائف على جميع فئات المجتمع السعودي على قدم المساواة لأن العدل لا يتجزأ.
والحقيقة إن القضاء في أمس الحاجة إلى قضاة من جميع مناطق المملكة ومن ثقافات متعددة حتى لا يتعارض التوظيف في القضاء مع مبدأ التعددية الإسلامية، إضافة إلى ذلك فإن معدل الزيادة في عدد القضاة لا يتناسب مع معدلات الزيادة في عدد القضايا ما جعل الزيادة في عدد القضاة الجدد لا يستطيع أن يختصر الوقت بشكل كبير وينجز العدد الهائل من القضايا التي تنظرها المحاكم، وهي قضايا تتدفق على المحاكم في شتى أنحاء المملكة بمئات الألوف.
ولكن مع كل هذه الملاحظات الموضوعية فإننا نؤكد أن هناك إنجازات إيجابية حققها مشروع إصلاح القضاء من أهمها افتتاح بعض المحاكم المتخصصة، وكذلك تحسين مناخ التقاضي، حيث انتهت وزارة العدل من تنفيذ بناء عديد من المحاكم بمستوى رفيع يليق بالمستوى الذي بلغه القضاء السعودي، الأكثر أهمية هو تعميم تكنولوجيا المعلومات على كل مرافق العمل في القضاء السعودي، وانتشار ظاهرة استخدام الكمبيوتر في مناحي الأعمال في وزارة العدل ما أثر ولا شك في معدلات الأداء، ومستوى ضبط وربط العمل وتحقيق نقلة نوعية في إنجاز المعاملات والعمليات، وأصبحت بعض المعاملات تنجز في غضون دقائق بعد أن كانت تستغرق أياما، بل شهورا.
ولقد استفادت قضايا الوكالات ونقل ملكيات الأراضي كثيرا من تطبيق تكنولوجيا المعلومات في جميع مرافق المحاكم الشرعية وكتابات العدل، ولقد استفاد الناس كثيرا من استخدام هذه التكنولوجيا التي عملت الفرق في سرعة الأداء والجودة في العمل.
نتمنى التوفيق والسداد للجنة التي تقوم حاليا على إنجاز مدونة الأحكام القضائية، ونرجو أن ينجز هذا العمل قريبا حتى يستكمل مشروع إصلاح القضاء كل أركانه، ولكن مع هذا نؤكد أن الإصلاح عملية لا تتوقف، وأن إصلاح اليوم يحتاج إلى إصلاح في الغد لآن الحياة والظروف يتغيران، بل تقنية المعلومات تتطور وتتغير للأفضل.