هل عاد الدولار قويا؟
منذ رفعت الولايات المتحدة من سعر الفائدة انهالت الأسئلة حول أهمية هذه الخطوة وتأثيرها، وببساطة فإن الإشارة التي دفع بها مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) إلى العالم بزيادة أسعار الفائدة هي إشارة واضحة الدلالة على تعافي الاقتصاد الأمريكي من أزمته المالية، لكن هل معنى هذا أن الدولار قد عاد قويا كسابق عهده؟ للحقيقة فإن الأمور في العالم والولايات المتحدة تخرج من أزمتها الحالية ليست الحال نفسها عندما خرجت من الحرب العالمية الثانية. فبعد الحرب العالمية خرجت الولايات المتحدة وهي سيدة العالم الصناعي بلا منازع، وهيمن الدولار على كل العملات، فلقد كان الخيار الأول لمن يحلم بالثروة (الرفاهة)، لكن الأمور اليوم مختلفة إلى حد بعيد.
المسألة برمتها هي مسألة قدرة الدولار على التعبير عن حجم الثروة التي يختزلها، نحن نعرف جميعا أن الذهب لم يعد له علاقة مباشرة بالدولار أو أية عملة أخرى أو حتى الإنتاج، فلم يعد أحد يطبع العملة بقدر ما يمتلك من ذهب، بل إن طباعة العملة تأتي فقط بقدر ما يحتاج إليه الاقتصاد منها. والتطورات الأخيرة في المصارف والتقنية التي تصرف بها العملة، وطرق تداولها، جعلت من العملة أمرا ومن طباعتها أمرا مختلفا تماما. في الماضي كان يتم تداول العملة الورقية في الأسواق أو من خلال الشيكات، لكن اليوم لم يعد للنقود الورقية "الفلوس" ذلك الدور. لقد أصبحت جميع الرواتب والمستحقات عن الأعمال والمهام والمشاريع تودع في حسابات مصرفية، وليس بالضرورة أن يكون لهذه الحسابات غطاء كاف من النقد لدى المصرف، بل قد لا تستغرب إذا ذهبت يوما إلى المصرف لطلب مبلغ لا يصل إلى 50 ألفا ليخبرك المصرف بأنه لا توجد لديه سيولة وعليك الانتظار إلى الغد حتى يوفرها لك من المؤسسة. هذا لا يعني البتة أن مركز المصرف ضعيف أو أن هناك مشكلة سيولة، بل لأنه لم يعد هناك أحد مثلك يطلب الورق كما كان سابقا. والسؤال المطروح: إذا لم يكن هناك ورق في المصرف يغطي جميع الحسابات ومنها حسابي وحسابك فما هي الأرقام التي تظهر في حساباتنا؟ إنها قيمة ما أسهمنا به في الاقتصاد مقوما بالعملة (الريال السعودي في المملكة). إذاً حجم الاقتصاد السعودي سيقاس بقدر ما نضيفه أنا وأنت وغيرنا للعالم من منتجات (بأنواعها) ننتجها ساعات العمل، والمواد والآلات التي نستخدمها، وستقدر ثروتي بحجم إنتاجي بالعملة في شكل أرقام تظهر في حساباتي في المصارف. إذاً ثروتي هي إنتاجي على شكل أرقام في المصرف. وبعبارة أخرى فإن الأرقام التي في المصرف لم تعد عملة ورقية، بل حجم إنتاجي ومساهمتي في الاقتصاد، وأستطيع استبدالها بأي طريقة شئت (عملة ورقية أو ذهب أو خدمات أو وقود للسيارة أو حتى رحلة سياحية).
في ظل هذا المفهوم، ما الذي يجعل أحدنا يهتم بالدولار كعملة تعبر عن إنتاجه وعن ثروته؟ في الماضي من يستطيع خزن ثروته (إنتاجه) في الدولار كان يستطيع شراء (استبدالها) أي شيء في العالم، ذلك أن قوة الدولار كانت تنبع من حجم الصناعة والإنتاج في الولايات المتحدة، الجميع يريد شراء المنتجات الأمريكية، ومن معه الدولار أو يستطيع تحويل عملته للدولار كان يستطيع شراء أي شيء، فبعد الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك من ينتج في العالم غيرها، لكن اليوم هناك عمالقة في الصناعة والابتكار؛ فمن يملك اليوان الصيني سيملك ثروة الإنتاج الصناعي في الصين، ومن يملك اليورو يستطيع امتلاك ما يشاء في أوروبا، ومن يملك الون الكوري الجنوبي سوف يستطيع شراء ما يشاء من منتجات المصانع الكورية. هذا هو السؤال الهائل اليوم خاصة في موضوع اليوان الصيني: هل يمكن أن يلعب اليوان الصيني ما لعبه الدولار في الماضي؟ سبب هذا السؤال واضح جدا، نحن إذا ترجمنا ثروتنا (إنتاجنا) باليوان نستطيع شراء أي شيء من العالم، فالجميع من حول العالم يريد أن يشتري من الصين. وبالعودة للسؤال الرئيس في المقال: لماذا اهتم العالم بالفائدة الأمريكية، ما القوة التي يمتلكها الدولار إذاً؟ في اعتقادي أنها فقط القوة السياسية للدولار في العالم، وليست القوة الاقتصادية والفرق كبير. لا توجد دولة في العالم تمنح الأمان السياسي للعملة كما تمنحها الولايات المتحدة. وفي عالم من الحروب والتغيرات السياسية والعصف في كل مكان تقريبا لا يوجد ملاذ استثماري آمن يمكنك وضع إنتاجك فيه مثل الدولار. فإذا رفعت الولايات المتحدة من الفائدة فإن هناك اعتقادا بالحصول على عوائد آمنة ومضمونة نسبيا مقارنة بأي مكان آخر في العالم. لكن هل ستكون ذات قيمة اقتصادية؟ سيكون على العالم حل هذه المعضلة في السنوات القادمة، وحتى ذلك الوقت ستكون هناك تبعات اقتصادية حتما على كل الدول المرتبطة بالدولار، فعودة الدولار بعد هذه السنوات ستكون لها ثمن، فمن سيدفعه؟