كما استطاعت النمور.. الجمال أيضا تستطيع
هذا العنوان "كما استطاعت النمور، الجمال أيضا تستطيع" مأخوذ من فكرة، طرحها قبل سنوات، الزميل العزيز الدكتور عبدالقادر الفنتوخ، وكيل وزارة التعليم، في أحد المؤتمرات على خلفية تستحق أن نقف عندها، لأنها تجسد ما نود بيانه في هذا المقال. تعود خلفية الفكرة إلى الدول الآسيوية الأربعة: "سنغافورة، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وهونج كونج"، الملقبة بالنمور، فقد استطاعت هذه الدول أن تعطي وتنهض وتتقدم وتنشر منتجاتها حول العالم. والفكرة هنا هي أنه إذا كانت "النمور" رموزا لدول آسيوية، فإن الرموز الموازية لها لدينا هي "الجمال". وإذا كان النمر معروفا بقوته ونشاطه، فإن الجمل معروف بتحمله وبذل الجهد وتقديم الفوائد بصبر وصمت ودون كلل أو ملل. وعلى ذلك، وكما استطاعت النمور الآسيوية أن تنطلق، فإن الجمال العربية قادرة على ذلك أيضا.
يستعرض هذا المقال قصص نجاح عربية، قدمت منجزات نالت عليها جوائز عالمية. وترتبط هذه المنجزات بالتقدم على محاور العمل على التحول إلى "مجتمع المعلومات"، وما في ذلك من فوائد تنموية. مصدر الجوائز هو "مؤتمر قمة المعلومات WSIS" عبر الجهة المسؤولة عن متابعة تنفيذ تطلعاته على المحاور التي تم إقرارها في المؤتمر الذي عقد على مرحلتين: الأولى في جنيف عام 2003م، والثانية في تونس عام 2005م. ويبلغ عدد محاور التنفيذ هذه "18 محورا"، يمثل كل منها مجالا من المجالات التي ينبغي الاهتمام بها في التحول إلى مجتمع المعلومات.
بدأ منح الجوائز عام 2012م، حيث تم منح جائزة سنوية "لأفضل قصة نجاح عالمية" على كل محور من محاور تنفيذ التحول. وعلى هذا الأساس تم منح "18 جائزة" سنويا على مدى السنوات 2012م وحتى 2015م؛ أي أن العدد الكلي للجوائز الممنوحة حتى الآن بلغ "72 جائزة". وعلى ذلك فلو أن لجميع الدول حصصا متساوية من النجاح في المجالات المطروحة لكان متوسط نصيب كل دولة من دول العالم من الجوائز يقل عن "نصف جائزة" على مدى السنوات الأربع، لأن عدد دول العالم يزيد على ضعفي عدد الجوائز. لكن الأمر لم يكن كذلك، بل كان فيه مفاجآت سعيدة، وبالذات "للجمال العربية".
نالت الدول العربية مجتمعة "18 جائزة" أي ربع مجمل الجوائز العالمية. المملكة العربية السعودية كانت في المقدمة، حيث نالت "6 جوائز"؛ تلتها الإمارات "4 جوائز"؛ ثم عمان "3 جوائز"؛ فالكويت "جائزتان"؛ ثم "جائزة واحدة" لكل من تونس والجزائر ومصر. وسوف نلقي الضوء فيما يلي على قصص النجاح السعودية الست التي استطاعت الوصول إلى الجوائز العالمية.
في عام 2012م، حصلت المملكة على جائزة على محور "التعلم إلكترونيا" عن برنامج "نور" الذي أطلقته وزارة التعليم الذي يقدم خدمات إلكترونية مختلفة لأصحاب العلاقة بالتعليم من طلاب، ومدرسين، وإداريين، وغيرهم. كما حصلت المملكة في ذات العام على جائزة أخرى على محور "التوظيف إلكترونيا" عن برنامج "حافز" الذي أطلقته وزارة العمل الذي يقدم خدمات تساعد الباحثين عن عمل في إيجاد وظائف مناسبة.
وفي عام 2013م، حصلت المملكة على جائزتين على محورين مختلفين أيضا. إحدى هاتين الجائزتين كانت على محور "تطوير تقنيات المعلومات والاتصالات من أجل التنمية"، ونالها "برنامج سفير" الذي أطلقته وزارة التعليم العالي، ليقوم بتقديم خدمات إلكترونية للطلاب السعوديين المبتعثين حول العالم؛ وكان البرنامج بإدارة زميلنا العزيز صاحب فكرة انطلاق "الجمال العربية". أما الجائزة الثانية فكانت على محور "تطوير بنية تقنيات المعلومات والاتصالات"، وكانت من نصيب "مشروع ربط المدارس" الذي أطلقته وزارة التعليم، الذي يعمل على تمكين جميع المدارس في مناطق المملكة المختلفة من الاتصال بالإنترنت عبر قنوات مناسبة.
وحصلت المملكة عام 2014 على جائزة محور "العمل إلكترونيا" عن "نظام معلومات المصادر الإدارية والمالية" الذي أطلقته وزارة التعليم، الذي يقدم وسائل استراتيجية لإدارة إجراءات عمل الوزارة بكفاءة وفاعلية في مناطق المملكة المختلفة. ثم حصلت المملكة عام 2015م على جائزة محور "التعاملات الإلكترونية الحكومية" عن "نظام اللجان والمجالس" الذي أطلقته جامعة المجمعة، الذي يقوم باستخدام التقنية من أجل تطوير بنية تقنية تسهم في تعزيز كفاءة العمل وتمكين تقييم الأداء وتحسينه.
وتجدر الإشارة في إطار ما سبق إلى ملاحظة مهمة لعلها تستحق اهتماما خاصا. تتلخص هذه الملاحظة في أن قصص النجاح المطروحة تتركز بصورة رئيسة في إنتاج برمجيات حاسوبية، تستخدم الشبكات والإنترنت، لتقدم خدمات مفيدة تحمل قيمة مطلوبة للأفراد والقطاعات. وتعد هذه الخدمات وفوائدها والقيمة التي تقدمها والتجدد المستمر فيها إبداعا وابتكارا جزءا من اقتصاد المعرفة. فآفاق تطبيقات هذه الخدمات واسعة النطاق تشمل أمورا كثيرة بينها: توجهات ما يعرف "بإنترنت الأشياء" التي تسعى إلى توصيل الأجهزة المختلفة إلى الإنترنت والتحكم بها، وتوجهات "الويب الذكي" التي تعمل على زيادة "مستوى ذكاء" الخدمات الإلكترونية المختلفة.
يضاف إلى ما سبق حقيقة أن العمل في إنتاج البرمجيات المفيدة بشتى أنواعها يتطلب جاهزية تتركز فقط في وجود "الإنسان المؤهل" من جهة، وفي توافر "تقنيات المعلومات والاتصالات" من جهة أخرى. فهذا العمل لا يحتاج إلى مواد خاصة أو معدات دقيقة يتعذر توفيرها، كما هو الحال في مجالات أخرى مختلفة من مجالات اقتصاد المعرفة.
الإنسان المؤهل موجود في المملكة، وتقنيات المعلومات والاتصالات متوافرة أيضا. ثم إن في قصص النجاح التي تم عرضها فيما سبق، التي نالت تقديرا دوليا، دلالة على وجود بذور للتفوق في إنتاج برمجيات تحمل قيمة في المجالات المختلفة. في هذه الإمكانات جاهزية متميزة للانطلاق نحو العطاء، وعلينا العمل على تفعيلها. يحتاج هذا التفعيل إلى استثمارات من أصحاب القدرة على ذلك. ولا شك أنه يحتاج أيضا إلى بحوث علمية تطبيقية، وإلى دراسات اقتصادية تعززها وتوجهها، وفي ذلك ميدان مهم لإسهام الجامعات ومراكز البحوث في العطاء العلمي والتنمية الوطنية.
كما استطاعت النمور، فإن الجمال أيضا تستطيع. الكلمات السحرية في هذه الاستطاعة هي "الإرادة والعمل والتعاون". وعلينا تفعيل معاني هذه الكلمات في الركائز الأساسية التي طرحناها في مقال سابق حول "مشهد التحول" وهي "الاستراتيجية التي توجه، والتقنية التي تعطي، والمؤسسات التي تتحمل المسؤولية، والبيئة التي تنظم، والإنسان جوهر كل ذلك".