رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


مشهد التحول والمنافسة .. ورؤيتنا المهمة

إذا كان التحول هو الانتقال من حالة لها خصائصها إلى حالة جديدة تلغي خصائص منها وتأتي بخصائص جديدة، فنحن مع التقدم المعرفي المتسارع الذي يشهده هذا العصر، وما يقدمه من مستجدات، مدفوعون إلى التحول بشكل متواصل، وغير مسبوق. فإذا لم ننظر إلى هذه الحقيقة ووقفنا حيث نحن، فاتنا القطار ووجدنا أنفسنا نبتعد عن مواكبة العصر. أما إذا نظرنا إلى هذه الحقيقة، وسعينا إلى الاستجابة للمستجدات ومراعاة متطلباتها، فإننا نكون في موقع أفضل، لكن هذا الموقع يبقى أيضا غير كاف. لأن المأمول هو أن نركز على الإسهام في صنع هذه المستجدات، وليس على الاستجابة لها فقط. فطموحنا للمستقبل يجب ألا يقتصر على رد الفعل والاستجابة لما يحدث من حولنا فقط، بل أن يشمل الفعل أيضا وتقديم مستجدات استباقية تضعنا بين المتنافسين على ريادة المستقبل.
ولا شك أن مشهد التحول والمنافسة في عالم اليوم مشهد متسع المجالات ومتشعب القضايا، وعلى ذلك فإن رؤية دورنا فيه هي كذلك أيضا. ولا يجوز في النظر إلى هذا المشهد ورؤية دورنا فيه أن نتوجه إلى ثقب الباب أو حتى إلى النافذة، حيث يظهر منه شيء وتغيب أشياء، بل علينا أن نراه في الهواء الطلق، ومن زوايا وأبعاد مختلفة، نشاهد جميع أطرافه وندرك كل مجالاته، ونستوعب كل تشعباته، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. وسوف نسعى فيما سيأتي من هذا المقال إلى طرح بعض الأبعاد الرئيسة، وبيان بعض النشاطات والأمور المهمة، التي ينبغي أخذها في الاعتبار في النظر إلى مشهد التحول والمنافسة ودورنا المأمول فيه. وقد يكون ما نقوله قائما فعلا، فإن كان الأمر كذلك فإن طرحه يبقى تأكيدا على حقائق الأمور.
لعلنا نبدأ بالتوجه نحو وضع "استراتيجية" لدورنا في مشهد التحول والمنافسة. مثل هذه الاستراتيجية تحتاج إلى ثلاثة متطلبات رئيسة قبل أن نستطيع تحديد ملامحها. المتطلب الأول هو تحديد المبادئ التي تستند الاستراتيجية إليها، ولنا في ديننا الإسلامي الحنيف ثروة من مبادئ التعامل مع الحياة التي تحثنا على التفكر والتدبر والعمل والإتقان ومكارم الأخلاق. أما المتطلب الثاني فهو أن نفهم العالم من حولنا، وندرك حقائقه واختلافاته وقوى التنافس فيه، في شتى المجالات، وفي مختلف المواقع الجغرافية. ثم يأتي المتطلب الثالث المرتبط بنا ويتضمن تحديد مكامن قوتنا ومواطن ضعفنا، والفرص المتاحة لنا، والعوائق القائمة أمامنا.
في تحديد المتطلبات، ثم في العمل على وضع التوجهات الاستراتيجية، هناك أربع ركائز رئيسة ينبغي أخذها في الاعتبار. أول هذه الركائز "الإنسان"، بل إنه مركز هذه الركائز، لأنه مصدر رؤية الحقائق والتفكير فيها؛ ومنبع الإبداع والابتكار الذي نأمله؛ ثم هو وسيلة تنفيذ الجهود على أفضل وجه ممكن؛ وهو كذلك هدف التقدم نحو مواكبة مستجدات العصر والإسهام في معطياتها والاستفادة من ذلك على أفضل وجه ممكن. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الإنسان ليس هو ذاته فقط، بل هو اللبنة الأساس للمجتمع الذي ينتمي إليه، وعليه مسؤولية تجاهه، ناهيك عن مسؤوليته الإنسانية تجاه العالم بأسره.
الركيزة الثانية في النظر إلى أمور حياتنا في هذا العصر هي "التقنية" سواء تلك التي نستخدمها من أجل الاستفادة منها، أو تلك التي نود تصنيعها والتجارة فيها، أو الاثنتين معا حيث نصنع ما نستخدم، ونصدّره للخارج أيضا. أما الركيزة الثالثة فهي "المؤسسات"، المحلية منها التي نود أن نفعّلها ونعزز معطياتها، والخارجية منها التي نريد التعامل معها، أو نسعى إلى منافستها. ثم تأتي الركيزة الرابعة وهي "بيئة العمل" وأنظمته وتشريعاته وممارساته، وهي بمثابة بيئة الأرض الزراعية تفعل العطاء إن سَلمت، وتحد منه أو تحبطه إن تداعت.
"الإنسان والتقنية والمؤسسات وبيئة العمل" هي إذن "ركائز الحالة" التي يجب على "الاستراتيجية" أن تهتم بها، وتقدم خططا لتطويرها من أجل مواكبة تحولات العصر، ومن أجل الإسهام في معطياته أيضا، والتنافس في ذلك مع الآخرين. ويستطيع القارئ الكريم أن يجد المزيد من النقاش حول هذه الركائز في كتاب "منظومة مجتمع المعرفة" المتاح للجميع على الموقع (faculty.ksu.edu.sa/shb)، حيث يناقش الاستراتيجية والركائز الأربع المطروحة، كل في فصل خاص.
وفي توجيه مسيرة تنفيذ الاستراتيجية وخططها والعمل على التطوير المستمر، يستحسن استخدام خطوات أساليب إدارة الجودة المختلفة. ومن ذلك الأسلوب المعروف باسم "الأبعاد الستة" الذي يسعى إلى الاهتمام بذلك، والعمل على تقديم نتائج خالية أو شبه خالية من الأخطاء. وتشمل خطوات العمل تبعا لهذا الأسلوب: "التعريف" بالحالة ويشمل ذلك "ركائز الحالة" وما يرتبط بها، إضافة إلى المتغيرات والمستجدات من حولها؛ ثم "قياس" الحالة وفهم جوانبها بدقة؛ والعمل بعد ذلك على "تحليلها" واتخاذ القرارات اللازمة بشأن تطويرها نحو الأفضل تبعا لتوجهات الاستراتيجية وخططها؛ ثم القيام بتنفيذ "التطوير" المنشود؛ وإدارة "استمراره وترسيخه". وتتصف هذه الخطوات بطبيعة متكررة تتم إعادتها دوريا، بما يحقق الاستجابة للمستجدات والإسهام في معطياتها.
وتبرز في مسألة وضع الاستراتيجية، ثم في مسيرة تنفيذها مسألتان مهمتان. أولاهما التعرّف على حقائق الأمور، وعلى مستوى أداء الأعمال بدقة من خلال "القياس". وثانيتهما "التفكير" برؤية واسعة شاملة للعوامل المؤثرة. ترتبط المسألة الأولى بتعزيز ثقافة القياس في أعمالنا في شتى مجالات الحياة؛ وهناك قول مأثور حول هذا الموضوع للعالم الفيزيائي الشهير "كالفن" هو "إن لم تستطع قياس أمر ما، فلن تستطيع تطويره".
أما المسألة الثانية فتتعلق بمنهجية طرح الأمور، وإشراك أصحاب العلاقة في التفكير فيها ومناقشتها للوصول إلى أفضل القرارات بشأنها. وهناك آراء متشعبة في هذا الموضوع، بين أبرزها منهجية "إدوارد دي بونو" فيما يسميه "التفكير المتوازي". يقضي هذا التفكير بالنظر إلى الموضوعات المطروحة من خلال ستة محاور، ويرمز لكل من هذا المحاور "بقبعة" من لون خاص: البيضاء للنظر إلى الحقائق والأهداف؛ والحمراء للأحاسيس والمشاعر؛ والسوداء للتحليل والنقد السلبي؛ والصفراء: للتوجه الإيجابي؛ والخضراء للإبداع ومحاولة وضع أفكار جديدة؛ والزرقاء لتنظيم ما سبق واتخاذ القرارات اللازمة.
نحن في عصر تغيراته كثيرة، ومعطياته متجددة، المعرفة فيه أداة لتلمس الطريق نحو التوجه السليم، وأداة أيضا لفتح طرق جديدة وريادتها وتحقيق السبق فيها. علينا ليس اكتساب المعرفة فقط، بل الإبداع فيها، وتوظيفها والاستفادة منها على أفضل وجه ممكن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي