«هيكلتنا الفكرية» .. وفرص «العولمة»
العولمة وآثارها الاقتصادية المدمرة على البلاد الإسلامية والعالم عنوان لمقالة اطلعت عليها من خلال الشبكة العنكبوتية للكاتب المهندس أبو بكر عساف كتبها عام 2008 وتساءلت في نفسي فيما إذا كان الكاتب سيكتب ما كتب نفسه الآن أو أنه سيكون له رأي آخر.
للعولمة تعريفات كثيرة وهناك من يركز على مخاطرها ويحذر منها ويعمل على التصدي لها كما هو حال من رأي في التثاقف مع الحضارات الأخرى غزوا فكريا وحشد الناس لمواجهته، وهؤلاء يميلون لتعريف العولمة بأنها "التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسية والثقافة والسلوك، دون اعتداد يذكر بالحدود السياسية للدول ذات السيادة، أو انتماء إلى وطن محدد، أو لدولة معينة، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية» أو تعريف الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي العولمة بأنها «نظام يمكن الأقوياء من فرض الدكتاتوريات اللا إنسانية التي تسمح بافتراس المستضعفين بذريعة التبادل الحر وحرية السوق».
وهناك من يركز على فرص العولمة ويراها خيرا محضا وأنها تشتمل على محفزات للنهوض في جميع المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية والبيئة وفق معايير قياسية مرجعية بدأت في الانتشار بمعظم الدول لتأخذ بها كمؤشرات ملموسة لمعرفة واقعها في هذه المجالات مقارنة بالآخرين وقياس الفجوة ومعرفة مدى التقدم أو التراجع نتيجة البرامج والمشاريع الإصلاحية والتطويرية التي تتخذها الدولة لمواكبة التقدم العاملي وللمحافظة على مصالحها ومواطنيها وتمكينهم من مستويات عيش ورفاهية ملائمة لإمكاناتها البشرية والمالية والمادية والطبيعية، وهؤلاء يميلون لتعريف العولمة بأنها (الحركة الاجتماعية التي تتضمن انكماش البعدين: الزماني والمكاني، ما يجعل العالم يبدو صغيرا إلى حد يُحتّم على البشر تقارب بعضهم من بعض)، وبالتالي التثاقف والتبادل المعرفي والتقني وانتقال الخبرات والمنتجات والأفكار بسهولة ويسر لحياة أكثر سهولة وعيش كريم.
وهناك فريق ثالث يرى العولمة بفرصها ومخاطرها وهؤلاء يميلون لتعريف "توم جي بالمر في معهد كيتو بواشنطن العاصمة للعولمة بأنها عبارة عن" تقليل أو إلغاء القيود المفروضة من قبل الدولة على كل عمليات التبادل التي تتم عبر الحدود وازدياد ظهور النظم العالمية المتكاملة والمتطورة للإنتاج والتبادل نتيجة لذلك”. كما يميلون لتناول “توماس إل فريدمان في كتابه "العالم المسطح" بأن الكم الكبير من الإمدادات والقوى السياسية قد أدت إلى دوام استمرار تغير العالم من حولنا إلى الأفضل والأسوأ في الوقت نفسه، وأن العولمة أصبحت تخطو خطوات سريعة وستواصل تأثيرها المتزايد في أساليب ومؤسسات مجال التجارة والأعمال.
وعلى كل حال لا يزال من الصعوبة بمكان تحديد تعريف دقيق للعولمة وذلك عائد إلى تعدد تعريفاتها والتي تتأثر أساسا بانحيازات الباحثين الإيديولوجية واتجاهاتهم إزاء العولمة رفضا أو قبولا.
من وجهة نظري انطلاقا من كوننا أمة وسطا علينا أن ننحاز للفريق الثالث الذي يرى في العولمة الفرص والمخاطر وأن العولمة كمفهوم أصبح واقعا ما هو إلا فكرة رأسمالية جاءت على جميع الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية كأحد إفرازات النظام الرأسمالي في إطار تطوراته من ناحية، وفي إطار معالجاته لآثاره السيئة من ناحية أخرى فالنظام الرأسمالي كما نعلم نظام اقتصادي مرن ومتجدد ويتعامل مع كل المستجدات بحلول ابتكارية جعلت منه النظام الأكثر فاعلية واستمرارية وانتشارا وأثارا، وبالتالي علينا أن نخرج من دائري الرفض أو القبول التام إلى دائرة التفاعل الإيجابي وعلينا أن نعد العدة لاغتنام الفرص وتجنب المخاطر.
ما هي العدة التي يجب أن نعدها لتحقيق التفاعل الإيجابي المنشود؟ يبدو لي أن العدة الأولى التي يجب أن نتسلح بها هي العدة الفكرية الملائمة لفهم العولمة وهياكلها ومؤسساتها وأنظمتها وتفاعلاتها وآثارها في جميع المجالات وكل هذه أمور متغيرة وليست ثابتة الأمر الذي يستدعي قدرة عالية على الرصد والمتابعة والنقل لهذه المتغيرات أولا بأول وإحاطة جميع المسؤولين والأجهزة المعنية بها لبناء قواعد معرفية وفلسفات فكرية لبناء مواقف سليمة متجددة وبالتالي سلوكيات وقرارات رشيدة في الوقت المناسب على اعتبار أن التزامن في اتخاذ القرارات وتطبيقها مسألة مختلفة تماما زمن اتخاذها دون النظر لمجريات الأحداث والأمور في زمانها.
في تقديمه لكتاب الثروة واقتصاد المعرفة للمؤلفين الفين وهايدي توفلر يقول مترجم الكتاب محمد زياد كبه "إن عصرنا الحالي هو عصر القوة العقلية والمرونة في العمل" وفي هذا الكتاب قسم المؤلفان سرعة استجابة القطاعات إلى سبع سرعات حسب القطاع فجعلوا القطاع الخاص أسرعها بسرعة 100ميل/ ساعة ثم مؤسسات المجتمع المدني (90ميل/ساعة)، ثم الأسرة (60ميل/ساعة)، فنقابات العمال (30ميل/ساعة)، فالأجهزة الحكومية (25ميل/ساعة)، فأنظمة التعليم (10ميل/ساعة)، وأخيرا المنظمات الدولية التي تسير بسرعة 5كم/ ساعة.
هذه المقارنة تقول إن الأسرع والأكثر مرونة وقدرة على الرصد والاستشعار والفهم والاستيعاب والاستجابة هو القطاع الخاص لأنه المسألة بالنسبة له مسألة أرباح وخسائر ووجود في كثير من الأحيان، وإذا كان هذا الواقع في أمريكا فبكل تأكيد لدينا ليس كذلك لأن قطاعنا الخاص قطاع اتكالي مترهل متصلب يعتاش معظمه على الإنفاق الحكومي وعلى أنظمة الحماية والتفضيل والدعم والرعاية وهي مفاهيم في مراحلها الأخيرة ليحل محلها وفق الأنظمة العالمية مفهوم المنافسة والمفاهيم المرتبطة به. بالتالي علينا أن نعيد هيكلة فكر القطاع الخاص في بلادنا لكي يلعب الدور الأهم في تمكيننا من اغتنام فرص العولمة ومواجهة مخاطرها.
ختاما أتطلع إلى أن يقوم مجلس الغرف التجارية والصناعية بالتعاون مع وزارة التجارة والصناعة وهيئة الاستثمار وجميع الجهات ذات الصلة، بتأهيل القطاع الخاص والمستثمرين السعوديين فكريا لمعطيات ومتغيرات العولمة من خلال كل الوسائل المتاحة وعلى وجه السرعة لنصبح أكثر قدرة على الفهم والاستجابة ومواجهة التحديات.