رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


السكر والأخبار .. كلاهما سام

تأملات الإثنين
.. زلازل، حروب، مفاجآت، اكتشافات .. معلومات، نهر سيال من المعلومات يصب بدماغك يوميا، بلا توقف، كل قناة مفتوحة كفوهة عظيمة تصب منها الأخبار مباشرة إلى وعاء دماغك. ماذا لو فكرت يوما أن تترك الأخبار.. تماما؟ لا جرائد، لا تلفزيون، لا مواقع أخبار على الهاتف.. قفلت كل تلك الفوهات التي تصب الأخبار في رأسك .. ما الذي سيحدث؟
صديقي طبيب كبير معروف جدا في منطقتي، وما يخرجني من طوري أنه يتفوق علي في كل شيء، أكلمه عن الكوانتم فإذا هو يسبقني بمراحل، أكلمه عن فلسفة الهند والصين والفرس واليونان والرومان، فإذا هو يسبقني كثيرا. أكلمه عن الأدب وعلوم الحضارات والأحافير والفضاء، فإذا هو يسبقني كثيرا. أحدثه عن الديانات من أيام أول طوطم عبد إلى مذاهب ومدارس العقائد والتصوف بكل نحلة وملة، فإذا هو يسبقني بكثير. طبعا، ناهيك عن تفوقه ونبوغه في تخصصه الطبي، ومهنته الأكاديمية، وأدائه الإداري النموذجي، فوق أنه رجل أسرة من الطراز الممتاز جدا. هو صديق عمري، لأنه هو من حافظ على هذه العلاقة أكثر مني .. حتى في هذه ما تركها لي، تفوق علي. فصرت لا أسابقه في مضمار، ولا أجاريه في أي مسار.
نلتقي هو وأنا أسبوعيا مرة واحدة لا ينساها ولا مرة، وأكاد أنساها كل مرة. حتى وهو يعلم أني لست بالمدينة يتصل فقط ليضبط رتمه هو، ورتم العلاقة، سواء ضبطت أنا الرتم أم لم أضبطه. سألته قبل البارحة: "يا صديقي ما سبب هذا التفوق عندك، كل شيء أحدثك عنه أرى أنك أطول باعا، وأعمق فهما، بل أذكى استنتاجا. ما السر يا حبيبي، قل لي: بأي فص دماغي تفكر؟ أم أن بعقلك شريحة ذهبية، وبعقلي شريحة تآكلت من معدن رخيص.
قال لي: "أقول لك. اسمع":
"أنت وكثيرون غيرك مدمنو معلومات. جوالك مفتوح طوال الوقت، وعينك مصبوبة على التلفزيون طوال الوقت، ولا تقع من بين يدك جرائد كل يوم. إنها أخبار تسمم عقلك. الأخبار سم في دماغك، تماما كما يسمم السكر جسدك. من يستغني عن السكر في طعامه، أو شرابه، بل يأنف الناس الأكل بلا سكر، وكأنهم يأكلون السكر ولا يأكلون الطعام. السكر يجعل الطعام شهيا، ولا يستسيغ الناس الأكل خاليا منه، سهل هضمه، ولكنه مدمر لخلايا الجسد على الزمن الطويل.
ويتابع صديقي الدكتور:
"تعرف أني من سنوات توقفت تماما عن الاستماع للأخبار ومشاهدتها. وألغيت كل اشتراكاتي بالجرائد بمنزلي، ولا أسمح أن تدخل مكتبي، وأعرض عنها لو صدف أن أحدا فتح صفحتَي الجريدة بجانبي. التلفزيون والراديو منذ متى توقفت عنهما؟ لم أعد أحسب. ربما كانت الأسابيع الأولى مغالبة وعراكا معي ومعي. بالنهاية أصبحت شخصا آخر، أصبحت عقلا آخر إن شئت. أنا طبيب لكن لأول مرة وعيت شيئا مهما جدا ولا نحسن تعريفه علماء وحكماء وفلاسفة وهذا الشيء الذي وعيت عليه بوضوح بل لمسته هو الصحة العقلية. سأعطيك مظاهر هذه الصحة العقلية: صفاء في الفكر، نفاذ بصيرة، قرارات أفضل .. والأهم المهم: وقت أكثر من غيري متاح واسع وعريض. أستغل هذا الوقت في قراءة الكتب، ووضع البحوث، وإشباع هوايتي من الاطلاع الرصين، وقضاء الوقت مع أسرتي" ثم ابتسم خافتا وأردف:".. ومعك!"
رفع نظارته، ونظر إلي بعينين فيهما مكر وذكاء الدنيا، وقال: "وفوق ذلك لم يفتني شيء مما تطلع عليه كل يوم من كل مصب".
يا الله .. حتى في هذه تفوَّق علي!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي