اقتصادات الربيع العربي
ما زالت الدول العربية التي اندلعت فيها ثورات الربيع العربي تعاني من تسلل الجماعات الإرهابية المدعومة من الخارج، التي تقوم بعمليات هدم لمقومات الدولة العربية الحديثة، وتعمل على قيام مجتمعات على أساس الطائفية العنصرية المقيتة، والمؤسف أن هذه الثورات العربية الحديثة ترفع شعار الديمقراطية، ولكنها تمارس أشنع أسلحة الدكتاتورية المدمرة.
إن من أهم الأركان التي تقوم عليها نظرية الديمقراطية الغربية أن الشعب مصدر السلطات، ولذلك أعطت النظرية الغربية للشعوب حق التظاهر والثورة وقلب أنظمة الحكم بالقوة الغاشمة!
ولكن في الواقع فإن إعطاء الشعوب ــ في المطلق ــ حق التظاهر وقلب أنظمة الحكم بالقوة الغاشمة.. جلب كثيرا من الأضرار على اقتصادات هذه الدول، بل الشواهد تؤكد بأن الثورات الشعبية من أهم الأسباب المدمرة للاقتصاد الوطني في كل الدول العربية التي اندلعت فيها باسم ثورات الربيع العربي.
ولو لم تقم هذه الثورات لكان حال الاقتصاد في هذه الدول أفضل بكثير ما هي عليه الآن، وعلى سبيل المثال فإننا إذا رجعنا إلى عدد من الثورات الشعبية في العالم المتقدم، ومجموعة أخرى من الثورات الشعبية في دولنا النامية نجد بأن الثورات كانت وبالا على الاقتصاد الوطني في هذه الدول وتلك، فالثورة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت دمرت الاقتصاد الفرنسي، بل دمرت المجتمع الفرنسي وأدخلته في سلسلة من الثورات الغاشمة والمستمرة لعقود طويلة، وظل الاقتصاد في فرنسا يعاني من إفرازات الثورات ولم تنته معاناته إلا بعد عقود من الزمن، كذلك فإن الثورة البلشفية في روسيا ظلت تحتحت في الاقتصاد الروسي وتتغول على معدلاته حتى هدأ الناس واستسلموا للاستقرار والابتعاد عن الثورة والتثوير.
أما في عالمنا الثالث فإن الثورة التي اندلعت في مصر في عام 1952 تركت اقتصادا مصريا متهالكا مريضا ينذر بالمزيد من الثورات حتى اندلعت ثورة 25 من يناير 2011 التي زادت الطين بلة ودفعت الاقتصاد المصري نحو المصير المجهول، كذلك تعد الثورة الإيرانية الشعبية التي انفجرت في وجه الشاه في عام 1979 من أهم الأسباب التي ذهبت بالاقتصاد القومي الإيراني إلى ما هو عليه الآن من تراجع وتدهور، وما زالت الثورة الإيرانية تتنكب الخطى وتجر على الاقتصاد الإيراني مزيدا من الخراب والدمار.
إن من أهم الدعائم التي تقوم عليها الاقتصادات الوطنية الاستقرار السياسي وزيادة الإنتاج، أما استخدام الثورات كوسيلة للتغيير وتحقيق العدالة الاجتماعية وزيادة معدلات التنمية، فإن الثورات لا لجام لها، ومطالبها لا حدود لها، ولذلك هي معول من معاول تقويض الاقتصاد الوطني، وإيقاف عجلة الإنتاج.
إن الغرب حينما أعطى للشعوب حق التظاهر فإنه في الوقت نفسه صبغ التظاهرات بصفة ملازمة وهي "السلمية" أي أن الشعوب لها حق التظاهر السلمي، وليس التظاهر في المطلق، كما أن النظرية الغربية لا تهتم بحقوق الشعوب فحسب، بل حفظت للأوطان حقوقها وطلبت من الشعوب تنفيذ واجباتها والمساهمة في كل ما يحقق الاستقرار والعمل الجاد والإنتاج الوفير.
وما نراه في المشهد العربي الآن هو انجراف الناس نحو الميادين والشوارع والقيام بالتدمير والتخريب، بل وصل الأمر إلى أن المظاهرات احتكمت للسلاح الذي راح ضحيته عدد غير قليل من الأبرياء.
وهكذا عمت الفوضى في الميادين والشوارع العربية، وحينما تعم الفوضى في الشوارع والميادين العامة، فإن الأصابع الخفية تتسلل بين الصفوف وتقدم المال زادا لأصحاب النفوس الضعيفة من أجل مزيد من الاشتعال والانفلات الأمني، وهكذا تطورت أحوال الميادين العربية، وأصبحت مصدرا لإشعال فتيل الحروب الأهلية والطائفية.
ويجب أن ندرك أن الشارع العربي واحد، والميدان العربي واحد بدليل أن ما حدث في الشارع التونسي حدث مثله في الشارع اليمني، ثم في الشارع المصري، ثم في الشارع الليبي، ثم في الشارع السوري، وهكذا دواليك.
أقول، إن الشارع العربي واحد، ولا نستبعد أبدا أن نرى ما يحدث في مصر يحدث في بعض العواصم العربية الأخرى التي تتابع شعوبها باهتمام ما يجرى في الشوارع والميادين العربية.
إن المطلوب من الحكومات العربية أن تسرع في إصدار التشريعات التي توازن بين حقوق الشعوب وواجباتها تجاه الأوطان.
ولن تستقيم الأوضاع في الشارع العربي والميدان العربي إلا إذا صدر تشريع يقاضي كل من يخرج على حدود المظاهرات السلمية، ويجب أن تتحفظ التشريعات على قضية حق التظاهر، وتربط التظاهر (قولا وتطبيقا وتنفيذا) بالتظاهر السلمي الذي يبني ولا يهدم، يصون ولا يدمر، يوفر ولا ينفر.
الأهم من هذا هو إصدار الأحكام وإشهارها على الملأ وتنفيذ عقوباتها الرادعة ضد كل الخارجين على القانون حتى ينضبط الشارع العربي، ويعود الاستقرار السياسي إلى كل أرجاء الوطن العربي، وتبدأ الحكومات في تصميم خطط التنمية والبناء.
أؤكد أن الاستقرار في الدول العربية لن يعم والاقتصاد لا يمضى قدما إلا إذا تم ضبط الشارع العربي، وتم منع تسلل الدخلاء والجواسيس، ونستطيع القول، إن الشعوب العربية في حالة هياج، وحينما تهيج الشعوب لا تجد أمامها إلا "أنثى" الثور، أقصد "الثورة"، وطبعا الثورة مزمجرة ومدمرة ومعطلة لمكنة الاقتصاد القومي، ولن يكون العلاج إلا بضبط الشارع ونزع فتيل الفوضى من العملاء الذين لا يهمهم إلا تخريب المجتمعات وتهديم الحكومات.