رجال الأعمال بين المركز وتهميش المناطق
التنمية المتوازنة مطلب مهم جدا، ويكفي أنها الرؤية الاقتصادية لخادم الحرمين الشريفين. والحقيقة أن التحول نحو التنمية الاقتصادية المتوازنة سيحقق كثيرا من المنافع الهائلة، ليس أقلها بناء اللحمة الوطنية المثالية، وقف الهجرة إلى مدن المركز، وزيادة دخل الفرد، ورفع قدرات القطاع الخاص ومشاركته، والاستقلال الاقتصادي بمفهومه العام، وقوة الريال السعودي، وتقليل الاعتماد على النفط، وزيادة فرص التحول إلى مجتمع المعرفة. لكن الطريق نحو كل هذا ليس سهلا ويحتاج إلى كثير من التخطيط والتفكير الاقتصادي الملهم، إن الوصول إلى مجتمع المعرفة الابتكاري يتطلب قفزات اقتصادية مبتكرة أولا. وهذا هو أكبر تحد نواجهه اليوم.
نعرف أن التنمية الاقتصادية المتوازنة تعني في أبسط صورها أن ترتكز كل منطقة على ميزاتها التنافسية وأن تصنع ما تعرف وما تجيد صناعته، وأن يجد الشباب فرص العمل في مصانعها، ثم تبدأ كل منطقة ببيع منتجاتها داخلها وعلى مناطق المملكة الأخرى، عندما تتميز القصيم بمصانع التمور والجوف في الزيتون فإن نجاح تنميتهما يعتمد على أمرين، الأول هو حجم المصانع والمزارع التي في القصيم والجوف، القادرة على تشغيل شباب وشابات هذه المناطق، ثم حجم القادرين في الجنوب وباقي مناطق المملكة جميعها على شراء إنتاج التمور والزيتون كافة، ونجاح منطقة الرياض في صناعة البلاستيك سيعتمد أيضا على مدى قدرتها على تشغيل شباب وشابات الرياض ومدى قدرة القصيم والجوف على شراء البلاستيك لمصانعهما ومزارعهما، وستكون الصورة النهائية للتنمية الاقتصادية المتوازنة أن كل منطقة تعمل ما تجيد عمله وفي الوقت نفسه قادرة على بيع إنتاجها في المناطق الأخرى لتشتري إنتاج تلك المناطق كافة وسيجد الجميع فرص عمل في مناطقهم ودخلا جيدا وحياة اجتماعية راقية.
لكن أكبر معضلة تواجهنا هي في المنافسة غير العادلة بين المناطق، سواء في بناء المصانع أو في فتح المؤسسات وفي التركيز على الميزات الاقتصادية، فمثلا قد يواجه أبناء المناطق في الأطراف مشكلة إغراق الأسواق من منتجات مصانع الوسط، وهذه مشكلة صعبة ومعقدة، فلو كنت أرغب في بناء مصنع في الجنوب لتغطية احتياج المنطقة من سلعة ما، فإنني لا أجد الحماية الكافية، فضلا عن الدعم. سيقوم الموردون الكبار لهذه السلع من الصين بإغراق السوق على هذا المستثمر الصغير لدرجة يستحيل معها البقاء، وليست هناك قواعد للحماية من الإغراق في المناطق أو قواعد لحماية الصناعيين الصغار ورجال الأعمال الصغار في المناطق. بالتأكد فإن قدرة كبار رجال الأعمال على فتح المشاريع هي قدرة هائلة، خاصة عندما يرتكزون في ذلك على ميزة "اقتصاديات الحجم الكبير"، وقدرتهم على فتح مراكز عرض ضخمة مع أسعار لا تنافس أبدا ما يجعل من المستحيل على رواد الأعمال وصغار رجال الأعمال المنافسة في مناطقهم، وفي الوقت نفسه لا تجد مفهوم الوكالات أو حقوق الامتياز قائما بين كبار رجال الأعمال في المركز وصغار رجال الأعمال في المناطق ولا أحد يتحدث عن هذا والتجارب محدودة وهامشية، أضف إلى كل ذلك أن هذه المراكز الضخمة التي تفتح في المناطق يتم تشغيلها بالكامل من خلال أجانب، الذين وصلت تحويلاتهم هذا العام إلى أكثر من 131 مليار ريال. إذا نحن بحاجة إلى قوانين منافسة في المناطق وقوانين عمل وأيضا مبادرات حق امتياز ترعاها هيئات الدولة، وباختصار نحتاج إلى قوانين تحمي التنمية المتوازنة في الأطراف، تساعد على بناء اقتصادي قوي في كل مدينة ومنطقة.
المشكلة الأخرى، هي المنافسة بين المناطق على المفهوم نفسه حتى لو لم تمتلك المنطقة ميزاتها في ذلك، فمثلا السياحة ترتبط بمناطق معينة ومع ذلك فإن مناطق أخرى تبذل جهدها سنويا على إقامة المهرجانات السياحية على أنها جاذب سياحي، رجال الأعمال أيضا يتوجهون بمراكزهم السياحية وفنادقهم نحو مناطق لم تعد مراكز سياحية بالمعنى المفهوم، لكن لتوافر العدد الكبير من السكان أصبحت مثل هذه المشاريع مربحة هناك حتى لو تحولت إلى مجرد صالات أفراح، لهذا فإن الاستثمار في مناطق أقل في عدد السكان حتى لو كانت مصنفة سياحيا في المملكة ليس محل جدولة لدى هذه الشركات. هناك أيضا عزوف من رجال الأعمال الذين نجحت لهم مشاريع في مناطق معينة عن الاستثمار في مناطق ناجحة سياحيا، لكن لأنه لا يوجد لدينا "مفهوم المنطقة الأولى بالرعاية" لكل نوع من المشاريع، فإن القرار الاقتصادي لكثير من الشركات ورجال الأعمال أصبح لا يخدم البنية الاجتماعية والأمنية للمملكة بقدر ما يحركه فكر رأسمالي صرف. ومع الأسف هناك إجحاف في توزيع المشاريع التجارية بين المناطق ورجال الأعمال يبحثون فقط عن المنطقة التي تحقق لهم أرباحا ضخمة مع أقل جهد ممكن. وهذه السياسة الأنانية لدى رجال الأعمال وعدم استشعارهم مسؤوليتهم الاجتماعية حولا أبناء المناطق في الأطراف إلى مجرد مستهلك صاف يعتمدون على وظائف الدولة ويتوجه الفائض من الشباب إلى مدن المركز للبحث عن عمل وفرص حياة أفضل، ما يجعل الحياة في تلك المدن بائسة، بينما يبحث الذين فشلوا في هذا وذاك عن سوق خفية خطرة يحققون فيها ذواتهم.
نحتاج إلى خطة عمل واضحة من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية في المناطق، نحتاج إلى صدق النيات في التغيير، نحتاج إلى بناء مجتمع اقتصادي تكافلي، وهذا المجتمع هو في نهاية المطاف الحصن الحصين من كل ما نعانيه من مشكلات اجتماعية خطيرة وصلت إلى حدود تفجير المساجد.