هل يدخر من لا يملك المال؟
عندما ينصح المختصون بالادخار وهو من أهم ممارسات الإدارة المالية الشخصية، يواجههم البعض بسؤال ساخر من نوع: "وأنى لي ذلك!" كيف يدخر وهو لا يملك أي فائض من الأموال؟ وكيف يدخر وهو لا يجد البدائل الملائمة؟ لماذا يدخر إذا كانت الخيارات قليلة وصعبة والمستقبل المالي قاتم وغير واضح! وأنا لا ألوم مثل هؤلاء فمصادر المعرفة المتخصصة في الإدارة المالية الشخصية، والادخار تحديدا، لم تزل شحيحة في معظم الدوائر من حولنا. حتى المتخصص يجد نفسه عرضة للتناقضات المستمرة بين ما ينادي به وبين ممارساته التي تؤثر فيها الخيارات المتاحة والعادات الاجتماعية المرهقة. كذلك، تعد الخيارات الادخارية النظامية قليلة جدا إن لم تكن معدومة وحتى تلك البدائل الادخارية التاريخية – كالأراضي مثلا – وضعت الآن تحت دائرة التنظيم والانتظار التشريعي الذي سيغير بلا شك من مكانتها السابقة.
ما يشجع على التفاؤل أن كثيرا من المؤشرات توحي بتنامي الثقافة الادخارية أو وجود ما يحفز تنميتها وتنبه الأفراد والمؤسسات لها. ومن هذه المؤشرات التحديات الاقتصادية المتزايدة، والتغييرات الهيكلية في الأجهزة المسؤولة عن هذه التطبيقات، والحلول المعجلة لقضايا السكن والوظائف، وتأثير التقنية في زيادة الوعي وانتشار المعلومة، ونمو المبادرات الأهلية وتشجيعها. ولكن، يظل السؤال مطروحا، هل ينتظر من لا يملك المال حتى تتحسن الظروف و"تزين" الأمور ويعيش نتائج كل هذه المتغيرات؟ وكيف يدخر أساسا وهو لا يملك أي فوائض قابلة للادخار؟!
تدور المتغيرات الاقتصادية في دوائر طويلة نسبية وتلحقها تلك الاجتماعية في فترات أطول، ولا أعتقد أن هناك من يحبذ الانتظار لعدد طويل من السنوات حتى تتحسن الظروف من حوله. فكرة أننا نعيش تحت وقع تحديات راهنة صعبة ليست سببا للتخاذل عن حماية مستقبلنا من التقلبات المالية، بل على العكس تماما، هي أهم أسباب التحول إلى الأساليب الأخرى الأكثر فائدة وقيمة. بغض النظر عن صعوبة الظروف الحالية لا بد من التنبه وتعديل أسلوب التعايش المالي حتى يصبح الحاضر مقنعا والمستقبل أكثر إشراقا. وهذا لا يحصل بالادخار فقط – وهو شبه مستحيل في كثير من الأوضاع الحالية - وإنما بتغيير طريقة التفكير Mindset والبدء بجدية في برنامج شخصي مالي صارم - وليس قاسيا – يقوم على التخطيط وتحسين مصادر الدخل الحالية ثم الادخار وهذا لا يمنع دون أدنى شك من الاستمتاع بالمداخيل التي نحصل عليها.
تشتمل الثقافة المالية الجيدة على بعض القواعد الحياتية التقليدية والأسس الكافية للتعامل مع كل الظروف الاقتصادية المحيطة، الصعبة منها والسهلة، الرواتب الجيدة والشحيحة، والخيارات الغنية والقليلة. ولكن هناك دائما من لا يكترث بذلك، من يتشبع بالأفكار السلبية حتى يظن أن مصيره المكتوب والدائم هو العيش على الحد الفاصل، وأن فسحة التغيير تكاد تكون معدومة فهو مظلوم قليل الحظ ولا يحظى بالدعم الذي يجده الآخرون، وربما يذكرنا من حين إلى آخر بأننا نعيش في زمن الفساد والواسطة. المفارقة أن نرى له إخوانا أو جيرانا في الحي والشارع أنفسهما يخرجون من البوتقة نفسها التي خرج منها إلى عوالم أخرى مغايرة تماما، حياتهم ميسرة ومبشرة، وأمورهم المالية محكمة متنامية، يشعرون بالثقة ويختارون ما يودون من القرارات التي تعود عليهم بالخير والهناء بعد جولات من الإصرار والسعي والعمل الدؤوب. وربما نرى في سنوات قليلة كيف تتغير ظروفهم نحو الثراء وكيف تظل ظروفه كما هي وكأنما ساعة الزمن والحظ واقفة لا تتحرك.
تشكل الخيارات الادخارية المتاحة للأفراد تحديا كبيرا حتى للمقتدرين ماليا، فهي قليلة ومتواضعة وخطيرة (مخاطرها عالية ولا تناسب الممارسات الادخارية الاستثمارية، مثل سوق الأسهم)؛ إضافة إلى عدم وجودها في قنوات سهلة وواضحة للمستفيد وقلة مراعاتها لمخاطر التضخم والتركز. لذلك نجد من يعتقد بأن الادخار عملية شبه مستحيلة في الوقت الحالي. ولكن هذا لا يعني أن يكف الشخص عن إدارة مستقبله المالي والاعتناء به. في الوقت نفسه، ندعو الجهات المرتبطة بتحسين الوعي المالي الشخصي، وأولها البنك السعودي للتسليف والادخار ومؤسسة النقد وعديد من الجهات الأخرى كوزارة التجارة وجمعية حماية المستهلك ومؤسسات المعلومات الائتمانية وجهات التطوير المهني، على تنفيذ برامج معجلة لحل هذه القضية. لا بد من وجود برامج مسرّعة ومحفّزة تركز على محورين: تفعيل ونشر المزيد من خيارات الادخار الاستثماري، ونقل الوعي المالي الشخصي للأفراد إلى مستويات أعلى بكثير من الوضع الراهن.