رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


إنها عجلة العبور إلى المستقبل

للعجلة، أو الدولاب، دور مهم في حياة الإنسان منذ ظهورها في آثار السومريين، كما يقول المُؤرخون، في بلاد ما بين النهرين، في نحو الألفية الخامسة قبل الميلاد. العجلة في حركتها الدورانية مكّنت وسائل النقل من التقدم والانتقال عبر المسافات، لكنها كانت دائما تحتاج إلى قوة خارجية تدفعها إلى الحركة كي تستطيع التقدم والعمل على خدمة الإنسان فيما تُعطيه من فوائد. كانت الخيول هي القوة الخارجية لحركة العجلة، ثُم جاءت الآلة البخارية، وكذلك الطاقة الكهربائية، ومحركات السيارات، إضافة إلى الطائرات التي لم تستغنِ عن هذه العجلة في صعودها ثُم في هبوطها أيضا، حتى المركبات الفضائية باتت تعود بأصحابها إلى الأرض بمُساعدة العجلة.
القوة الخارجية الدافعة للعجلة تحتاج بدورها إلى من يُمكّنها ويُفعل قوتها كي تستطيع تحريك العجلة إلى الأمام وتحقيق الفوائد المرجوة. هذا التمكين هو غذاء القوة الدافعة ومصدر حيويتها وإمكاناتها؛ هو مصدر الطاقة في حركة العجلة، هو الطاقة المُتجددة كمساقط المياه، والرياح، وهو الطاقة الناضبة كالنفط الكامن في باطن الأرض.
إذا كانت العجلة، على أساس ما تقدم، وسيلة لتحقيق التقدم نحو خير نتطلع إليه، فهي تحتاج إلى قوة دافعة؛ ولهذه القوة الدافعة مُتطلبات ينبغي تأمينها كي تكتمل حركة التقدم المنشودة. يرى هذا المقال أننا نحتاج إلى عجلة من نوع جديد تكون وسيلة لعبورنا إلى مُستقبل مُشرق نأمل الوصول إليه. يرى المقال أن "السعادة" التي تحدثنا عنها في مقال سابق هي القوة الدافعة للعجلة، وأن لهذه السعادة "مُتطلبات" لإيجادها وتفعيلها، ويرى أيضا قوة السعادة التي تُحرك العجلة تصل بنا إلى "خير" كثير يُغذي السعادة بدوره ويُفعل حركة العجلة إلى الأمام، وإلى مزيد من الخير. وهذا ما سنحاول بيانه في السطور التالية من هذا المقال.
طرحنا في مقال سابق أن هناك معايير مُختلفة يجري قياسها لتقييم سعادة الدول المُختلفة، أو بالأحرى سعادة الإنسان في هذه الدول. أبرز هذه المعايير هي معايير "تقرير السعادة الدولي WHR". وسنناقش فيما يلي المعاني التي تطرحها هذه المعايير، على أساس أنها تنطلق من مُتطلبات السعادة المُتفق عليها على نطاق واسع.
المعيار الرئيس الأول من المعايير الدولية للسعادة هو "المعيار الاقتصادي". وهو في مجال السعادة ليس الغنى وجمع المال، بل هو "الكفاية" الاقتصادية التي تستجيب لاحتياجات الإنسان. ويُذكرنا هذا المعيار بهرم "ماسلو" لاحتياجات الإنسان، حيث يُبين أن للإنسان احتياجات مادية قبل أن يستطيع أن يُعطي ويتميز ويُحقق ذاته. وبين هذه الاحتياجات المأكل والملبس والمسكن، وكذلك الأمن والأمان في البيئة من حوله.
ويهتم المعيار الرئيس الثاني "بالجانب الاجتماعي"، بمعنى وجود دعم اجتماعي من قريب أو صديق عند الحاجة. وهذا الجانب مطروح أيضا في هرم ماسلو لاحتياجات الإنسان. وإذا أخذنا الأمر بصورة أوسع على مستوى المُجتمع، فإن على كُل إنسان في المُجتمع أن يُراعي مصالح الجميع من حوله، وأن تكون المصلحة العامة للمجتمع فوق مصلحة الأفراد. ثُم إذا أخذنا الأمر على مستوى الأمم، فإن العلاقة بين الأمم يجب أن تكون علاقة تعاون ورُبما مُنافسة موضوعية مسؤولة، بعيدة عن الصراع والاستغلال. ويطرح "بول كوليير"، الأستاذ في جامعة أكسفورد، في كتابه "البليون الأدنى"، مشروعا اجتماعيا يقترح تضامن الدول الأوروبية على مُساعدة الناس في المناطق الأكثر فقرا من العالم.
ويُركز المعيار الثالث على "صحة الإنسان" والوقاية من الأمراض والتمتع بحياة صحية سليمة. ويرتبط هذا الأمر بتوفير الغذاء الجيد والمياه النظيفة غير الملوثة للإنسان، إضافة إلى توفير العناية الصحية. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود علاقة تبادلية بين الصحة والسعادة. فالإنسان السعيد يتمتع بجسد أقوى وأعلى مناعة في مقاومة الأمراض، كما يقول كثير من الدراسات الطبية. وهناك على الموقع الإلكتروني لكُلية الصحة العامة في جامعة هارفارد الشهيرة توصيات لحياة صحية أفضل وأكثر سعادة.
يهتم المعيار الدولي الرابع "بالعطاء" واستمتاع الإنسان به. ويتحدث "شوان أكور" الباحث في مجال السعادة في جامعة هارفارد عن تجربة من تجارب بحوثه تقول التالي. إذا كان أمامنا مجموعتان من الناس، وأعطينا كُل فرد في كُل منهما "100 دولار"، وقلنا للمجموعة الأولى ليصرف كُل منكم المبلغ على ذاته؛ ثُم قلنا للمجموعة الثانية ليكن إنفاق المبلغ على آخرين مُحتاجين. أظهرت هذه التجربة أن أفراد مجموعة الإنفاق على الآخرين كانوا أكثر سعادة من مجموعة الإنفاق على الذات، ما يبرز فكرة السعادة النابعة من العطاء.
ويأتي المعيار الخامس "برسالة مُعادية للفساد"، مُهتما بضرورة إدراكه وفهمه من أجل تجنبه. ويصب هذا الأمر في قضية "الأخلاق والسلوك"، والبعد عن كُل ما يُؤذي الإنسان. فالتعامل مع الآخر يجب أن يكون عادلا وأن يحمل مودة وحسن خُلق مع الآخرين. فليس الفساد راشيا ومُرتشيا فقط، بل هو أي أذى وظلم للآخر قد نجده في سلوك الإنسان، مثل مُخالفات السير، والمخالفات في الأداء المهني، واستغلال الآخر، وغير ذلك.
ويبرز بعد ذلك المعيار السادس مهتما بالحرية في "اختيار مسيرة الحياة"، ولا شك أن هذا الأمر يفترض وجود فرص مُتاحة، كي يتمتع الإنسان بحق الاختيار. وهذا واجب على المُجتمع بأسره، وبخاصة أولئك الذين يملكون إمكانات إتاحة الفرص. وهُنا يبرز دور الاستثمار ليس الاقتصادي فقط بل الاجتماعي أيضا.
المعايير المهمة الغائبة في المعايير الدولية السابقة هي: "المعرفة"، و"النجاح"، إضافة إلى "البعد الروحي" الذي يحتاج إلى طرح مُنفرد خارج إطار هذا المقال. المعرفة مُتطلب رئيس من مُتطلبات بناء الإمكانات التي تُحقق السعادة، بل إن المعرفة لدى كثيرين سعادة بحد ذاتها، فأن تعرف وتتعرف على ما حولك خير من أن تجهل ذلك. أما النجاح، فهو أمر كالصحة، للسعادة معه علاقة تبادلية. وتقول دراسة في جامعة "ووريك" البريطانية، أجراها "أندرو أوزولد" إن إنتاجية السعداء تفوق وسطيا إنتاجية الآخرين بنسبة تبلغ "12 في المائة"، أي نحو ساعة عمل يوميا.
ونعود أخيرا إلى "عجلة العبور إلى المستقبل" للنظر إلى قوة السعادة والعوامل الأخرى المُرتبطة بتفعيل تحركها ودفعها إلى الأمام بشكل متواصل ومُتجدد، لتحقيق التقدم الذي نتطلع إليه. سنجد في هذه العوامل كُلا من "المعرفة، والتخطيط الاقتصادي، والتوجه الاجتماعي، والاهتمام الصحي، والسلوك الأخلاقي، والعطاء المهني، والبيئة الآمنة، إضافة إلى السعادة التي تُفعل كُل ذلك لتعطي الأداء المنشود في التقدم إلى الأمام".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي