قمة أنطاليا .. بداية لدور جديد للمجموعة
قمة مجموعة العشرين في أنطاليا التي حظيت بتشريف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لها، تأتي في وقت حرج على المستويين السياسي والاقتصادي للعالم، وتضع دول المجموعة أمام اختبار بقاء صعب كأهم تجمع اقتصادي دولي يعنى بإدارة ومناقشة القضايا المتعلقة بالاقتصاد العالمي. منذ بدء المجموعة كتجمع اقتصادي على مستوى القادة في خريف عام 2008 في مدينة واشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية والمجموعة تراوح مكانها في معالجة أهم تحد لها، وهو تأثير الأزمة المالية العالمية في الاقتصاد العالمي، وعودة النمو الاقتصادي القوي وتخفيض معدلات البطالة المرتفعة في الدول المتقدمة على وجه الخصوص. تحد كبير للمجموعة وتحول كبير في الأدوار يتشكل من قمة لأخرى، لكن القمة في كل مرة تحاول التركيز على دورها الرئيس وهو تعزيز النمو الاقتصادي العالمي القوي والمستدام لدول المجموعة. لكن إلى أي مدى يمكن للمجموعة الاستمرار في التركيز على هذا الهدف فقط في ظل المتغيرات السياسية العالمية، وهل يمكن لقادة أهم 19 دولة يلتقون مرة واحدة كل عام التحدث فقط في الجوانب المتعلقة بالاقتصاد العالمي دون التطرق إلى التطورات على مستوى السياسة الدولية؟ أمر قد تحدده في المستقبل قمة أنطاليا.
هناك جدل كبير حول نجاح مجموعة العشرين كأهم تجمع اقتصادي، وبالتالي فإن استمرار هذا التجمع فعالا في المستقبل يرتبط بتعريف هذا النجاح. لكن الجميع يتفق على أن النجاح الأكبر للمجموعة كان في الاستجابة السريعة للأزمة العالمية حيث تبنت جميع الدول حزم تحفيز مالية كبيرة لتعزيز النمو الاقتصادي في ظل المخاطر المحدقة، والعمل على تعزيز متانة القطاعات المالية من خلال زيادة الضمانات على الودائع، ودعم موارد مؤسسات بريتون وودز لتمكينها من مواجهة الطلب المحتمل على مواردها. لكن بعد ذلك، دخلت المجموعة في صراع بين داعمي السياسات الهيكلية والحاجة إلى إجراءات عميقة في الهياكل الاقتصادية لتعزيز النمو على المدى الطويل (ألمانيا) ، وبين الحاجة إلى دعم النمو على المدى القصير لكي تتمكن الدول من الوقوف على أقدامها وإجراء الإصلاحات الهيكلية الصعبة التي لا تؤتي نتائجها بشكل سريع (الولايات المتحدة). وفي إطار هذا الجدل فقدت المجموعة القدرة على التأثير الجماعي في مسار الاقتصاد العالمي، حيث شهدت قمة تورنتو انتصار التوجه الأوروبي، وتوافق ذلك مع بدء أزمة الديون في منطقة اليورو وبالتحديد في اليونان التي دخلت في دوامة طويلة جديدة من مسار التقشف Austerity الذي فرضته النظرة الألمانية للإصلاح. مجموعة العشرين لم تنجح في وضع الأزمة الأوروبية على المسار الصحيح للإصلاح، ودخلت أوروبا في ركود اقتصادي جر معه النمو الاقتصادي العالمي، ما أدى إلى تداعيات على الدول الأخرى، وبالتالي لم يحقق التعاون الاقتصادي بين دول المجموعة الهدف الرئيس المتعلق بالنمو القوي والمتوازن والمستدام بين دول المجموعة.
الرئاسة الأسترالية للمجموعة خلال العام الماضي أدركت أن هناك حاجة إلى إعادة مجموعة العشرين إلى مسارها الصحيح بالتركيز على هدف النمو القوي والمتوازن والمستدام، وسعت إلى التوصل إلى اتفاق بين دول المجموعة لاتخاذ عدد من الإجراءات لتعزيز النمو الاقتصادي العالمي بمعدل 2 في المائة بحلول عام 2018. التوصل إلى اتفاق بشأن ذلك يعد نجاحا للرئاسة الأسترالية، لكن على الرغم من مرور عام على ذلك الاتفاق، إلا أن مسار الاقتصاد العالمي يبتعد أكثر عن تحقيق هذا الهدف. لذلك، سعت الرئاسة التركية للمجموعة خلال هذا العام إلى اتخاذ مجموعة من الإجراءات التي تكفل الاستمرار في تحقيق هذا الهدف. ومن ذلك، تبني آلية لمتابعة تنفيذ استراتيجيات النمو الاقتصادي التي تعهدت بها الدول خلال مدى زمني محدد، وتعزيز هذه الاستراتيجيات بإضافة مزيد من التعهدات. كذلك، إضافة استراتيجيات لتعزيز الاستثمار في دول المجموعة، بما في ذلك تعزيز الاستثمار في البنية التحتية. وأخيرا تعزيز سياسات النمو الشامل Inclusive Growth من خلال تعزيز التوظف للجنسين، ودعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، ووضع السياسات للتعامل مع فجوة الدخل Inequality. الآن سيكون على الرئاسة الصينية التي ستبدأ في ديسمبر القادم العمل على تحقيق هذا الهدف من خلال الآليات المتفق عليها بين دول المجموعة في أنطاليا، وهو سيضع الصين في اختبار صعب لقيادة الاقتصاد العالمي لتحقيق هذا الهدف.
ما يميز قمة أنطاليا عن القمم السابقة أن الأحداث الجيوسياسية في المنطقة أثرت في أجوائها بشكل كبير. والحادث الإرهابي الذي حدث في باريس قبل بدء القمة بيومين فقط ألقى بظلاله على اللقاءات والأحاديث التي تخللتها القمة. وعلى الرغم من التأكيدات السابقة على أن القمة هي قمة للتعاون الاقتصادي بين دول المجموعة، إلا أن اجتماعا لقادة أهم 19 اقتصادا في العالم لا يمكن أن يخلو من التطرق إلى الجوانب السياسية، خصوصا إذا كانت القمة تعقد في مكان قريب من هذه الأحداث. سورية أصبحت قضية محورية ليس فقط بالنسبة للشرق الأوسط، ولكن كذلك بالنسبة إلى العالم ككل، وما يحدث من جرائم ضد الإنسانية من قبل النظام السوري بدأ يلقي بظلاله على أوروبا من خلال الهجرة الواسعة ما أوجد حالة من الجدل في أوروبا حول هذه القضية، وأصبحت قضية الهجرة أحد الملفات التي لا يمكن لدول المجموعة والمجتمع الدولي تجاهلها على الإطلاق لما لها من تأثيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية في الدول المرسلة والمستقبلة للمهاجرين. ملف الإرهاب أيضا أصبح إحدى القضايا التي تداولها القادة المجتمعون في أنطاليا خصوصا في ظل التطورات الأخيرة في باريس. ويبدو أن قمة أنطاليا قد تكون فعليا نقطة انطلاق المجموعة من مجموعة لأهم 19 اقتصادا في العالم، لتضيف إلى أجندتها مواضيع الأمن والسلم العالمي، الدور الذي حاولت المجموعة تجنبه خلال القمم السابقة وكانت تلعبه في السابق مجموعة الثماني.