رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


السعادة .. ماذا نفعل من أجلها

ليست السعادة مفهوما محددا، بل هي أمر متعدد الأبعاد، يختلف بين إنسان وآخر، ويتغير بين حالة وأخرى. الشعور بالرضى عن مجريات الحياة يرتبط بالسعادة، وكذلك الإحساس بالاطمئنان، والنجاح في الوصول إلى الأهداف وتحقيق الطموحات. في حالات الضيق والأزمات، تأتي السعادة في التخلص من متاعبها، أو حتى في الحد منها. كسرة الخبز سعادة للجائع؛ والصدقة سعادة للمحتاج؛ والمأوى سعادة للمتشرد؛ وإحضار الدواء سعادة للمريض. وفي قضايا الحياة العامة، تختلف أولويات السعادة، البعض يراها في المال؛ وآخرون في المعرفة؛ وغيرهم في الحياة الاجتماعية؛ أو ربما في أمور أخرى مختلفة.
يضاف إلى ما سبق أن للسعادة "بيئة" يحكمها سلوك الناس وأخلاقيات التعامل فيما بينهم. وترتبط هذه البيئة "بثقافة الأمم" وتراثها جهة، كما تتعلق "برؤيتها" وتوجهاتها المستقبلية من جهة أخرى. في هذا مجال هذه الرؤية، يروي "روبرت رايش" الأستاذ في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، الذي كان وزيرا للعمل في وزارة الرئيس الأمريكي الأسبق "بيل كلينتون"، أنه كان يتحدث يوما عن "الناتج الإجمالي الوطني GNP" ونموه كمقياس اقتصادي رئيس للدول المختلفة؛ وبعد هذا الحديث، قال له ممثل دولة "بوتانBhutan " الصغيرة الواقعة على أحضان جبال الهمالايا بين الصين وبنجلادش، ليس هذا هو مقياسنا لذاتنا، لنا رؤية أخرى، مقياسنا هو "السعادة الإجمالية الوطنية GNH".
لا شك أن الأكثرية بين الناس ترى أن سعادة الإنسان أكثر أهمية من تراكم المال لديه؛ ولو أنه لا بد لهذه السعادة من قاعدة اقتصادية مرضية تحميها وتغذيها. وتجدر الإشارة هنا إلى أن السعادة لا ترتبط فقط بالأخذ من القاعدة الاقتصادية، بل إنها قد تأتي من موقع الإسهام في هذه القاعدة وتغذيتها. فالإنسان السعيد، في بيئة السعادة، يكون أكثر قدرة على التفكير والإبداع والابتكار والحكمة، وعلى أداء الأعمال بالكفاءة والفاعلية المطلوبة. وعلى الرغم من أن أهدافه لا تكون في الأغلب اقتصادية، إلا أنها قد تسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تعزيز الحالة الاقتصادية للفرد وللمجتمع.
لدولة "بوتان" دليل لقياس السعادة الوطنية. ويتكون هذا الدليل من "تسعة محاور" يطرح كل منها موضوعا من موضوعات السعادة التي يجب تقييمها في إطار تقييم الدليل الإجمالي. وتشمل هذه الموضوعات "التعليم؛ والصحة العامة؛ والصحة النفسية؛ واستخدام الزمن؛ والبيئة العامة؛ والنشاط المجتمعي؛ والتعدد الثقافي؛ ومستوى المعيشة؛ إضافة إلى حوكمة المجتمع وإدارته". وهناك مؤشرات لكل من هذه الموضوعات في الدليل الإجمالي. ويبلغ مجمل عدد هذه المؤشرات "33 مؤشرا".
وقد حظي مبدأ تقييم السعادة، الذي أطلقته دولة "بوتان" باهتمام العالم، ووصل الأمر إلى منظمة الأمم المتحدة التي كلفت عددا من المختصين بوضع دليل لسعادة الدول. ويصدر نتيجة لذلك في الوقت الحاضر تقرير دوري هو "تقرير السعادة الدولي WHR". ويقدم هذا التقرير دليلا جديدا لتقييم السعادة. ويستند هذا الدليل إلى "ثمانية محاور"، لكل منها مؤشر واحد يمكن تقييمه من خلال دراسات ميدانية إحصائية.
تبدأ محاور تقييم السعادة طبقا للتقرير الدولي بالناحية الاقتصادية وتستخدم في ذلك مؤشر "الناتج الإجمالي"؛ وهكذا يبقى هذا المؤشر حاضرا، ولكن إلى جانب مؤشرات متعددة أخرى. وتنتقل محاور التقييم بعد ذلك إلى الجانب الاجتماعي وبالذات إلى مؤشر وجود "دعم اجتماعي" من قريب أو صديق عند الحاجة، ويعكس هذا الأمر جانب الترابط الاجتماعي بين الناس.
ثم تأتي مسألة "الصحة" ومؤشر الوقاية من الأمراض والتمتع بحياة صحية سليمة. وتبرز بعد ذلك قضية حرية "اختيار مسيرة الحياة"، فمن يتمتع بذلك يهتم بالأمور التي تناسب إمكاناته ومواهبه. وهناك أيضا صفة "الكرم" وقدرة الإنسان على العطاء، بما يستطيع، واستمتاعه بذلك. ثم هناك موضوع "إدراك قضايا الفساد في المجتمع" من أجل الإسهام في معالجتها. وهناك أخيرا التأثيرات الإضافية التي "تزيد السعادة" من جهة؛ وتلك التي "تحد منها" من جهة أخرى.
لا شك أن جميع البشر ينشدون السعادة، بما سبق من معايير عامة، وربما بمعايير أخرى تضاف إليها. وبالطبع لا بد من إحاطة جميع هذه المعايير بالأخلاقيات الإنسانية التي لا يختلف بشأنها الضمير الإنساني، وإن اختلفت حولها المصالح غير المشروعة، والأطماع غير الحميدة، التي تعيق كل سعادة وتهدم كل حضارة. فطالما تراجعت وسقطت الحضارات والدول عبر التاريخ تحت وطأة مثل هذه المصالح أو تلك الأطماع.
وإذا كان الاهتمام بالسعادة يرتبط "بثقافة الأمم" وماضيها وتراثها، فثقافتنا الإسلامية تعطينا خير جاهزية لهذه السعادة، وذلك انطلاقا من توجه هذه الثقافة نحو بناء حسن الخلق، وطيب المعشر في الإنسان، ونحو تعزيز الفضيلة في سلوكه وتعامله مع الآخرين. ديننا الإسلامي الحنيف يعلمنا أن "تبسمك في وجه أخيك صدقة"، وأن عليك أن "تطعم الطعام، وتقرأ السلام، على من عرفت ومن لم تعرف" كما يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث الشريف أيضا، أنه عند حدوث خلاف بين شخصين، يكون "خيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام". وهناك أمثلة أخرى كثيرة لحرص ديننا الإسلامي الحنيف على التعامل الحسن بين الناس، وإشاعة التفاهم والسعادة فيما بينهم.
ثقافتنا الإسلامية تقدم أعمدة راسخة لبيئة السعادة يجدر بنا أن نعود إليها في طموحاتنا المستقبلية نحو مجتمع سعيد متبسم للحياة، وقادر على صناعة التقدم. جوهر الأمر هو إشاعة المحبة، وحسن الخلق، والسلوك القويم، والمنطق السليم في الحياة. فعندما يتعامل الإنسان بمحبة مع من حوله، لا بد أن يجد منهم مثل ذلك. والمحبة هنا هي الانحياز للمعروف المقترن بالحق والتفاهم والحلم وأداء الواجب؛ وهي أيضا الابتعاد عن الطمع والظلم والباطل. فبناء الخير وترسيخه أمر يجلب الرضى ويعزز الاستدامة؛ ويبعد النقمة والغضب وما يتبع ذلك من آثار جانبية لا تحمد عقباها.
على كل منا أن يسعى إلى إسعاد من حوله، في حياته الخاصة؛ وفي تواصله مع المجتمع؛ وفي عمله المهني. وتزداد أهمية ذلك عندما يرتبط الأمر بأولئك الأكثر تأثيرا في الآخرين. وسائل الإسعاد هنا كثيرة بينها المودة، والابتسامة، والكلمة الطيبة، والتفاهم. على كل منا أن يستطيع التواصل مع الجميع في أي قضية؛ أن يتفق معهم "بترحيب"؛ وأن يختلف معهم "برفق". علينا أن ننشر المحبة في دوائر تأثيرنا. بذلك نستطيع أن نسعد من حولنا، وأن نجد السعادة تحيط بنا، وتبعدنا عن الشرور.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي