توفير البيئات المناسبة لاستقطاب الكفاءات المميزة
لا نستغرب عندما نسمع عن الكفاءات الإدارية الوطنية المميزة ذات الخبرة العريضة والتجارب الممتدة لسنوات وربما لعقود، هم بيننا ويستحقون الشكر والعرفان. ولكن اللافت حقا، هو تزايد الكفاءات الشابة التي تمسك بإحكام أفضل أساليب الإدارة العصرية، وبخبرة محدودة زمنيا ولكن عظيمة في المعاني والحكمة تقود أداء الجهات التي تعمل بها وتدير قدرا كبيرا من عمليات التغيير التي تحدث في مختلف المنشآت الوطنية.
تتشكل قوى التجمعات المهنية مثل أسراب الطيور، وتعمل وفق قواعدها التي تنحصر بين ثلاثة أدوار رئيسة، التجمع والتنسيق والتفرق. النموذج الحالي يعمل بأسلوب التفرق الذي يهدر الكثير من الطاقات القيادية وتصعب ملاحظته ويهدد طيوره بالضياع. نحن في حاجة إلى التحول إلى التنسيق والتجمع حتى تصبح الرحلة أفضل والتجربة أغنى وتظهر لنا الإنجازات القابلة للنسخ والتطور.
من يبحث عن المتميزين الذين يشكلون القدوات الجديدة سيجدهم في الأماكن المتميزة فقط، فهؤلاء يتجهون بصورة طبيعية نحو أماكن العمل التي تكافئ امتيازاتهم، ويبتعدون بطريقة تلقائية عن كل بيئة تضيق بها آفاقهم وتحدد فيها تحركاتهم.
من المشاهد اليوم أن الكفاءات القيادية الشابة لا تزال تتزايد في العدد والنوع، تتجدد مشاربها وتفتح لها المزيد من الحقول والميادين. معظم هؤلاء الشبان الجدد يحوزون مجموعة من السمات المشتركة الأساسية التي تقوم على التعليم المتخصص الجيد، والخبرة المركزة في أماكن العمل المتميزة، ومهارات التواصل الفعالة، والحضور الإيجابي والتفاعل والانطلاق والثقة. أي أنهم لا يفتقدون العمق المعرفي، ولا يعملون في أماكن متواضعة وظيفيا، ويجيدون لغة ثانية على الأقل، ولا يعجزون عن شرح مرادهم أو فهم مراد غيرهم، وبالتأكيد يتركون خلفهم الخجل والتردد والكسل والشك في القدرات.
تسليط الضوء على هذه النماذج يسمح لنا باستنساخها وتحفيز غيرها للظهور. إضافة إلى ذلك، يحتاج عديد من الجهات ـــ خصوصا في هذه الأيام ـــ إلى البحث عن مثل هذه الكفاءات لتنهض بمهامها الاستثنائية التي تحتوي على تغييرات شاملة وواسعة في البنى التنظيمية والثقافية في منشآتها. وكما نطعم المنشآت بالقدرات الكامنة والكفاءات الطموحة والخريجين الجدد، يجب أن نطعمها كذلك بالخبرات الشابة المتميزة حتى تصبح الصورة واضحة ومتوازنة وعقلانية، يمكن تصديقها واقعا مشاهدا وليس خبرا منقولا فقط.
أكثر ما يقتل انتشار هذه النوع من الكفاءات هو فشل عديد من الجهات في توفير البيئات المناسبة لاستقطابها، ما يزيد من قطبية الكفاءات في سوق العمل؛ ليتمركز المتميزون في بعض الأماكن المتميزة وينتشر المتواضعون في بقية الأماكن المتواضعة. هذا يزيد من العزلة والضعف المهني ويضعف ديناميكية السوق، وهو أمر يستدعي انتباه المسؤولين وخصوصا الأجهزة الجديدة التي تقع هذه الأمور ضمن دائرة اهتماماتها. لذا من المهم أن تركز جهودهم على بناء المؤهلات المؤسسية وتحفيز المنشآت على التغيير الثقافي والمالي الذي يسمح باستيعاب مثل هذه الأمور، وهذا لا يصلح إلا بالاتصال المباشر والمستمر بين الجهات التنظيمية وبقية المنشآت الحكومية وغير الحكومية.
من واقع مشاهدتي الشخصية، يصل الشباب إلى المواقع القيادية والكفاءة النوعية المتميزة بعدة طرق، وعلى الرغم من اختلاف هذه الطرق إلا أن السمات المعرفية والمهارية الشخصية تتشابه. سنجدهم جميعا يملكون الحافز القوي ويستغلون الفرص التي يجدونها في طريقهم ويحوزون قدرا جيدا من الصبر والقدرة على تجاهل نظرات اللوم وضغط المجتمع والأعراف، هم يملكون القدرة على تحدي ما يواجهم والتغلب على الصعوبات التي تعترض طريقهم.
أما بالنسبة لطرق الوصول إلى هذه الدرجة من التأثير والعطاء المهني فهي تبدأ أولا من الحصول على المعرفة المتميزة والمختلفة عن أقرانهم في مكان العمل. لن يشكل مصدر المعرفة فارقا كبيرا سواء كان التأهيل الأكاديمي أو المهني أو الجهد الشخصي في القراءة والسؤال والتجريب، فسلاح المعرفة الفنية الذي يتسلح به الشباب لا يخطئ بسهولة ويسهل الانتباه إلى قوته وجودة إصابته، ما يمنح صاحبه القدرة على لفت الانتباه وكسب الثقة أمام رؤسائه.
يقدم بعض الخبراء مهارات التواصل الفعالة على دور المعرفة المتخصصة في بناء الشخصية المؤثرة، وهذا واضح وجلي في بعض التخصصات وبدرجة أقل في غيرها. في كل الأحوال لا يمكن التقليل من القدرة على الظهور بشكل جيد والحديث بوضوح وثقة، والاستماع وتقدير محاولات الآخرين للتواصل وفهم ما يصبون إليه بأقل مجهود.
حيازة مثل هذه المميزات النوعية في عمر مبكر والتمرن جيدا مع الخبراء في الأماكن التي تحترم موظفيها وتحرص على تطورهم، يجعل صناعة المزيد من هذه القيادات واقعا قابلا للانتشار وتطبيقا ممتازا لقواعد الأسراب المهاجرة، تلك التي تستغل الديناميكية وتصنع الإنجازات بأناقة. لا بد من أن نلتفت إلى النماذج الرائعة بطرق أكثر تفصيلا وتأثيرا، ليس عن طريق الإعلام أو التوثيق والاحتفال فقط، وإنما بزرعها في مختلف المواضع التي يتمركز فيها الشباب.. تلك الأماكن التي تتحفز فيها قدراتهم الكامنة للتعلم والانطلاق.