الفلسفة والعلم والاقتصاد
أخيرا تزايدت المقالات عن الفلسفة ودورها وتنويرها، لعل آخرها مقال الدكتور جاسر الحربش في صحيفة "الجزيرة"، كما كتب الدكتور خالد الدخيل والدكتور إبراهيم المطرودي، في جريدتي "الحياة" و"الرياض" على التوالي، والجميع يؤكد ضرورة عودة الوعي الفلسفي ودوره في قيادة العلم ومن ثم التنمية، لكن تفاوت النقاش كلما اقتربنا من المعضلة القديمة في الفلسفة عند المسلمين، وذلك النقاش العقيم حول العقل والنص. فما مشكلتنا مع الفلسفة؟ إنها مشكلة التشريع، لم تكن مشكلة العالم الإسلامي مع الفلسفة في حقيقتها بل في استخداماتها، لم تكن مشكلتنا مع الفلسفة في دورها في عالم الحياة والتقنية بل مشكلة تحقيق ما هو الخير وما هو الشر ما هو الجميل وما هو القبيح. هنا أكبر معضلة واجهت النقاش الذي اندلع في العالم الإسلامي عندما انعزل واصل بن عطاء عن مجلس الحسن البصري، الفلسفة في العالم الإسلامي ومشكلتها بدأت فعليا ذلك اليوم.
لقد كانت فتنة مقتل الخليفة عثمان بن عفان ـــ رضي الله عنه ـــ هي ما أنتج العنف على يد طائفة جديدة على المسلمين وهم الخوارج، وأطلقت هذه الطائفة تهم التكفير على كبار الصحابة واستحلت الدماء، كما استخدمت النص القرآني بطريقة تعزز موقفها، ولهذا تصدى لهم الحسن البصري في وقت عصيب على الأمة تزلزل فيه كثير من المفاهيم وأصبح موضوعا للنقاش العام، ولهذا أكد الحسن البصري ضرورة مناقشة هذه المفاهيم وتأصيلها وتقعيدها، وهنا فقط ظهر واصل بن عطاء، الذي رأى أن النقاش حول المفاهيم والتقعيد هو حق للعقل وعمله، وأنه كاف بنفسه لتقرير معنى الكبيرة والصغيرة والفرق بينهما، ولما خالفه البصري انعزل عنه، فظهرت طائفة المعتزلة التي أنتجت علم الكلام لأول مرة في العالم الإسلامي، وهي تقرر أنه يمكن الوصول إلى الحكم التشريعي من خلال عمل العقل فقط. لكن ما المشكلة في ذلك؟
المشكلة هي أننا إذا قررنا ما هو الخير وما هو الشر من خلال عمل العقل فقط أو ما تنتجه مادة العقل "كما قيل بعد واصل بن عطاء بقرون" فسنعيد النظر في ثقافتنا. لقد كانت مدرستا الرأي والحديث اللتان هيمنتا على العالم الإسلامي قبل واصل بن عطاء تخالفان هذا تماما وتضعان النص فوق العقل تماما، لا مجال للنقاش في نص صريح أو قياس صحيح، لا عمل للعقل هنا أبدا، العقل خاضع هنا، ولهذا فإنه لا حاجة إلى أدوات العقل للحكم على ما صدر فيه نص صريح، وبالتالي لا حاجة إلى الفلسفة، بل تجريمها إن هي وصلت إلى هذه الحدود. لكن الخلاف الذي بدأه واصل لم يقف أبدا، وبدأ تيار كبير من المفكرين الذين يرون قوة العقل المحض في فهم هذا الكون وتفسيره دون الحاجة إلى نص يقود هذا الفكر، وظهر في مقابله تيار أكبر وأقوى يرى أن طريق العقل المحض لن ينتهي إلا إلى تدمير الإنسان. وظهرت مدارس الفقه كلها مرتكزة في التشريع على النص، ومدارس تستخدم العقل في فهم الطبيعة أولا ثم في محاجة أهل النص بما أنتجه العقل، حتى ظهر جابر بن حيان، وهو خلاصة الفكر التجريبي في العالم الإسلامي، وظهر بعده عدد من العلماء التجريبيين أمثال البيروني والرازي وابن سينا وغيرهم كثير، ممن قدموا أمثلة هائلة لما يمكن لمادة العقل أن تقدمه من تفسيرات للكون، وأن تثبت جدارة هذه التفسيرات في الواقع، وفي ظل تلك النتائج الباهرة للتجريبيين المسلمين احتدم النقاش حول العقل والنقل، لكنه فجأة توقف. لم يستطع العالم الإسلامي بكل حضارته وعباقرته ومفكريه وفلاسفته وعلمائه تجاوز تلك المعضلة، لم يستطع أحد منهم أن يبني منهجا يمثل الفكر الإسلامي ليستمر العالم في تقدمه.
من العجيب جدا أن الأسئلة نفسها التي كان العالم الإسلامي يناقشها حول العقل والنص، كانت أوروبا تناقشها في الحقبة نفسها، كأن العالم حينها في سباق محموم للبحث عن حل. قررت أوروبا ـــ وبعد صراع مرير ـــ أن تتخلى عن النص تماما، وقرر العالم الإسلامي أن يقفل النقاش تماما لينام بعدها طويلا. انطلقت أوروبا بجنون مع نجاحات التجريبيين في تطوير الأمة الأوروبية، ولهذا قرروا أن يكون العقل وحده الذي يقرر الفرق بين الخير والشر، وفي هذا الطريق ظهرت الدولة الحديثة والبرلمانات، وظهرت الثورات والحروب والأمراض، ومرت أوروبا بنجاحات هائلة وأيضا كوارث هائلة جدا، كانت أوروبا تجرب الخير الذي تراه خيرا بعقل جيل ثم تراه شرا بعد ذلك في عقل جيل آخر، وظهر علم الاقتصاد في خضم التطورات الهائلة على يد التجريبي آدم سميث، الذي فسر دور العمال في الاقتصاد (بالعقل) ثم برره في كتابه ثروة الأمم وخلق تبريرا لا يقهر للرأسمالية وحقوق الرأسماليين، ثم جاء هيربرت سبنسر الذي أطلق مصطلح البقاء للأصلح وحرم الفقراء من الدعم وأصر على أن فقر العمال ناتج عن ضعفهم وكثرتهم وليس بسبب الرأسماليين وحقهم، ثم توالت النظريات التي تتأثر بما تراه في جيلها، فالعقل مهما بلغ لا يستطيع أن يفسر أبعد مما تدركه الحواس. فظهرت العيوب الخطيرة للعقل الرأسمالي بما تسبب فيه من فقر وقهر وطبقية خطيرة، فظهر إيمانويل كانت بفكر مختلف عن الإنجليزيين، وبرر قليلا أن هناك شيئا يسبق علم التجربة، شيء ليس بالضرورة أن يكون من عمل العقل بل مفروض عليه. لكن هذا قاد إلى كارثة الماركسية وهدم الدولة والثورات في نهاية المطاف، ثم رحلة طويلة جدا من النقاش الذي استمر لقرون حول الفلسفة، والتجربة، حول العلم والوهم، حول الشك واليقين، وانتهت أوروبا اليوم من حيث بدأت، انتهت بفلسفة ما بعد الحداثة، وأن الأشياء في العقل تكون صحيحة فقط في فترة وحضارة ما ومكان وثقافة خاصة بها. لم تكن الأساطير تستحق أن نتجاهلها بل هي نتاج ثقافة وقتها وزمنها، ولو كنا في ذلك الزمن فقد نؤمن بها.
عاد العالم العربي والإسلامي بعد الحملة الفرنسية إلى حلبة الحضارة، يريد أن يسابق الجميع وهو غير مؤهل، ولهذا وقع ببساطة في فخ القرار الذي اتخذته أوروبا بعزل النص عن الحياة، لقد كان قرار أوروبا نابعا من تجربتها مع النص، نابعا من نصها نفسه، نابعا من ثقافتها، من تجربتها. ولهذا وبدلا من العودة إلى حسم مسألة النص والعقل تاه العالم الإسلامي في تكرار تجربة أوروبا المريرة مع الفلسفة، واليوم مع حجم الكارثة في العالم العربي والإسلامي نجني ثمرة تلك القرارات السيئة عندما هربنا من مشكلتنا القديمة. لن تحل مشكلتنا العلمية، لن نتقدم في الحضارة والتنمية والعمل الإنساني ونقدم للبشرية شيئا ما لم نعُد بشجاعة إلى حل تلك المعضلة الكبرى. حل يضمن لنا بناء منهج للعقل يسير فيه بهدى ونور، وينزع الخلاف من جذوره.