رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التعليم .. وأخلاقيات العالم

في إطار اهتمامه بالتعليم، يبحث "هوارد جاردنر"، الأستاذ في جامعة هارفارد، في شؤون ذكاء الإنسان وإمكاناته وتوجهاته. وبين منجزاته في هذا المجال تقسيمه للذكاء الإنساني إلى تسعة مجالات مختلفة؛ وتقسيمه لإمكانات عقل الإنسان وتوجهاته إلى خمسة محاور رئيسة. وقد طرحنا هذه التقسيمات في مقالات سابقة، وبينا أن أي إنسان لا يصنف في مجال واحد، في إطار الذكاء، أو في إطار الإمكانات والتوجهات، بل غالبا ما يتمتع بصفات هي مزيج من الصفات المرتبطة بأكثر من مجال. وما يهمنا من هذه التقسيمات في هذا المقال هو ما يدعوه "جاردنر" "بالعقل الأخلاقي" الذي يقصد به التوجه الأخلاقي للإنسان والتزامه به ونظرته إلى الحياة من خلاله.
يقول جارنر عن دراساته حول "التوجه الأخلاقي" لدى الشباب، في الفئة العمرية "15 إلى 20 عاما"، أي أولئك في المدارس الثانوية والجامعات، أنها حملت نتائج غير محمودة. فقد أظهرت أن كثيرا منهم لا يرون في "ممارسة الغش" مخالفة كبرى. كما أنهم يرون أن الالتزام الأخلاقي ربما يكون عائقا أمام مستقبلهم. وحجتهم في ذلك أن المجتمع مليء بغير الملتزمين أخلاقيا، وأن الأساليب الملتوية باتت وسائل ناجحة لتحقيق الأهداف والطموحات، خصوصا عندما ترتبط بالقوة والشهرة. لكنهم مقتنعون بتميز القيم الأخلاقية في مشاعر الإنسان، ويأملون في تبني الالتزام الأخلاقي في المستقبل، ولكن بعد أن يكونوا قد وصلوا إلى ما يطمحون إليه.
ما تقوله هذه النتائج غير المحمودة نجده قائما على أرض الواقع في شتى أنحاء العالم. وجدناه صارخا هذا العام، 2015، في فضيحة شركة "سيارات فولكس فاجن" الألمانية العريقة في العلم والتقنية والصناعة المتميزة. فقد مارست هذه الشركة الغش، بالطبع بأوامر من القائمين على إدارتها وتنفيذ مهندسيها، وهؤلاء من أصحاب الدرجات التعليمية العليا، حيث جرى استخدام أساليب تقنية خاصة للادعاء بأن سياراتها صديقة للبيئة وأن عوادمها محدودة التأثير. بهذا الغش تبرز الشركة تميزها على الشركات الأخرى، لتكسب سوقا أوسع، وزيادة في الأرباح.
وهناك قصص شهيرة أخرى لمثل ذلك، على مستوى العالم، وفي مجالات عامة أخرى. ففي عام 2001، أدينت شركة التدقيق المالي والاستشارات "آرثر أندرسون" بالغش، وكانت بين أكبر خمس شركات عالمية في مجالها. وكان هذا الغش لمصلحة شركة "إنرون"، إحدى أكبر شركات الطاقة في أمريكا، فقد كانت معلومات التدقيق المالي التي قدمتها شركة "آرثر أندرسون" بشأن "إنرون" غير صحيحة، تهدف إلى مكاسب مالية غير مشروعة. وتقع مسؤولية ذلك على المسؤولين عن إدارة الشركتين، والمستشارين الماليين فيهما؛ وهؤلاء هم أيضا من أصحاب الدرجات التعليمية العليا.
ولعلنا نذكر أيضا الأزمة المالية في أمريكا التي تفجرت عام 2008، التي نجمت عن أطماع بالربح المرتفع السريع دون مراعاة لإمكانات الآخرين أو معاناتهم. فقد قامت بعض المؤسسات المالية برفع الإقراض في السوق العقارية لكثير من الناس، حتى وإن لم تكن إمكاناتهم تسمح بذلك، فارتفعت الأسعار وزادت الأرباح، ولكن إلى حين. فأمام انكشاف الحقائق برزت الأزمة ودفع المتورطون الثمن. ونال البعض أرباحا سريعة بممارسات بعيدة عن الالتزام الأخلاقي، وهؤلاء هم أيضا من المتعلمين.
وبالطبع يزداد الأثر السلبي للممارسات غير الأخلاقية على المجتمع وعلى العالم، بازدياد مكانة أصحاب هذه الممارسات، ومدى سعة تأثيرهم. وعلى مستوى العلم، تبرز بشكل متزايد قضية الأخلاقيات العالمية Global Ethics. في هذا الإطار ظهر عام 2007 كتاب لـ "بول كولير" الأستاذ في جامعة أوكسفورد البريطانية الشهيرة، عنوانه "البليون الأدنى The Bottom Billion" يتحدث فيه عن البليون من السكان الأفقر في العالم بين بلايينه السبعة أو أكثر.
يدعو مؤلف هذا الكتاب أوروبا، التي ينتمي إليها، إلى مساعدة هؤلاء للخروج من أوحال الفقر ومعاناته. لكنه يقول إن سياسيي أوروبا يتعاطفون باللسان مع هؤلاء، لكنهم لا يفعلون على أرض الواقع شيئا. ويستطرد بأن أحد أسباب ذلك هو التزام السياسي الأوروبي بناخبيه، ومعظم هؤلاء الناخبين غير واعين لمشكلات العالم، على الرغم من التعليم، وغير مدركين للحاجة العقلانية وليس العاطفية فقط إلى الأخلاقيات العالمية، التي تسعى إلى تمكين الجميع من حياة كريمة تسهم في بناء عالم متوازن آمن.
وفي إطار الأخلاقيات العالمية أيضا، تحدث رئيس بريطانيا السابق "جوردن براون"، الذي كان يوما محاضرا في جامعة أدنبرا، عن التكامل بين الانتماء الوطني والانتماء العالمي؛ واعتبر أن العالم يحتاج إلى الاثنين معا، خصوصا في الموضوعات العالمية مثل البيئة، وتداعيات الفقر، والقضايا الإنسانية.
في ديننا الإسلامي الحنيف قول شامل للرسول صلى الله عليه وسلم في الأخلاقيات هو "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وقول آخر في مسألة الانتماء "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"؛ وقد أعقب هذا القول تساؤل يقول "يا رسول الله نصرته مظلوما فكيف أنصره ظالما"؛ فجاء الرد منطلقا من جوهر مكارم الأخلاق "تمنعه عن الظلم، فذلك نصرتك إياه". في هدين الحديثين الشريفين ثقافة إسلامية للعالم بأسره، دعوة إلى الالتزام بالأخلاق الحميدة، ودعوة إلى الالتزام بالانتماء، ولكن في إطار أخلاقيات العدل ومنع الظلم.
في المشهد العالمي أمامنا اليوم أزمة أخلاقية متفاقمة، على الرغم من التوسع في التعليم، وتقدم مسيرة العلم، وانتشار معطياته التقنية، والتكامل بين أطراف العالم عبر الإنترنت. هناك أزمة أخلاقية على مستوى الممارسات المهنية في أشهر المؤسسات وأكثر دول العالم تقدما. هناك على المستوى السياسي أزمة أخلاقية في الالتزام الأعمى بالانتماء، وليس الالتزام على أساس العدل ومنع الظلم. هناك أزمات أخلاقية تقودها أطماع القوة، لتنحرف بها عن الروح الإنسانية، وتجعل العالم غابة بلا حضارة.
أليس للتعليم دور في تطوير العالم؟ لا شك في ذلك فهو الذي مكن الإنسان من التقدم العلمي والتطور التقني. هو الذي جعل منازلنا مضاءة بالأنوار، ومكيفة الهواء؛ هو الذي أعطانا وسائل النقل ووسائل الاتصال، وأنواعا من الرفاهية لم يكن الإنسان في العصور السابقة يحلم بها. ولكن، ألا من دور للتعليم في مكارم الأخلاق، في بناء الإنسان الملتزم بالروح الإنسانية، بالعدل ومنع الظلم، وبالتعاون مع الآخرين على ذلك. إذا استطاع التعليم إصلاح المتعلمين، أو جلهم، فلن نرى ما نشهده اليوم من أزمات يسببها كثيرون منهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي