البحوث والتطوير .. وصناعة القرارات والخطط «الرشيدة»
تحدثت لمسؤول في جهة تتخذ قرارات ذات صلة بكل المنشآت التجارية والصناعية، وتؤثر تلك القرارات في تحفيز أو تثبيط تلك المنشآت بصورة أو بأخرى، وسألته سؤالا مهما، هو: كيف تُصنع القرارات التي تتخذونها والخطط التي تنفذونها؟ فأجابني ببساطة: نجتمع نحن المسؤولين المعنيين ونتدارس موضوع القرار، ونصنع القرار ونتخذه، ونشرع في تطبيقه إذا كان ضمن صلاحياتنا، وإلا رفعناه للجهات ذات الصلاحية، وعادة ما تقر القرارات التي نرفع بها، وكذا الأمر بالنسبة لإعداد الخطط وإقرارها وتطبيقها.
قلت له: وكيف تسير الأمور بعد الاعتماد على هذه الآلية؟ قال ببساطة: لا يوجد لدينا في العادة وضع قياسي أو مرجع مقارنة نعتمد عليه في تقييم فعالية القرارات والخطط، ولذلك تسير الأمور من دون متابعة دقيقة تحدد الفجوة بين المحقق والقياسي أو الافتراضي، وبحسب تقييمنا الانطباعي أو العاطفي فإننا نعتقد أن معظم، أو لنقل كل قراراتنا وخططنا فاعلة وناجحة ما لم نواجه معارضة من جهات أعلى، أو انتقادات حادة من صناع الرأي، وبالتالي الرأي العام.
قلت له: كيف تقيم الفاعلية والكفاءة بناء على ذلك؟ قال: كما أسلفت لك، لا أدوات تقييم واضحة لدينا، بل إننا لا نبذل جهدا كبيرا في التحليل والتشخيص والاطلاع على التجارب الدولية كمرحلة أولى، حيث إننا لا نهتم بتكوين مركز بحوث وتطوير يقوم بهذه المهمة، وعادة ما نعتمد على الانطباعات والعواطف، وما ندركه من معلومات في إطار سياقات قد تكون آنية وليست دائمة، الأمر الذي يجعلنا نتخذ قرارات عادة ما نلحقها بعد مدة من الزمن بتعاميم تلغيها وتقر نقيضها أحيانا.
يضيف: إننا بتنا نتأثر بشدة بالرأي العام وصناعه، والحالة العاطفية السائدة نتيجة للحراك الإعلامي، خصوصا بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت صناعة المواد النقدية أو التوجيهية وسهولة نشرها وإيجاد تفاعل واسع معها لتشكيل رأي عام ضاغط، الأمر الذي جعلنا نتخذ الكثير من القرارات والخطط التنفيذية المرحلية ونحن على صفيح ساخن، ما جعلنا على يقين بأننا نبدد الكثير من الوقت والجهد والمال من دون فائدة، ولكننا لم نركز حقيقة على ضرورة إيجاد مركز أو إدارة للبحوث والتطوير ترفع من درجة كفاءاتنا في اتخاذ القرارات وإعداد الخطط الرشيدة، أو لنقل الأكثر رشدا، التي يمكن رصد وقياس نتائجها لتطويرها أو معالجتها بمرور الوقت بما يتناسب والغاية والأهداف.
حال هذا المسؤول كما يبدو لي ليس استثنائيا، بل هو حال الكثير إن لم يكن معظم المسؤولين، حيث الاعتماد الكبير على الانطباعات والأهواء والآراء الجماعية والمصالح بدلا من الاعتماد على الدراسات والبحوث الشاملة والعميقة والدقيقة التي ترسم الصورة الواضحة المترابطة الأجزاء التي تمكن فريق العمل من التشخيص الصحيح من جهة، كما تمكنه من خلال الاطلاع على التجارب الأخرى والنجاحات في الظروف والمعطيات المثيلة، وبالتالي القدرة على الإتيان بحلول إبداعية دون الحاجة إلى اختراع العجلة من جديد من جهة أخرى.
وأجزم أن غياب مراكز أو إدارات البحوث والدراسات الحقيقية الاحترافية أدى إلى ضعف موقف وحجة الكثير من المسؤولين أمام منتقديهم من صناع الرأي وغيرهم، حيث لا مرجعية علمية متوافرة لديهم يمكن الاستناد إليها، الأمر الذي أدى كما أسمع إلى انتشار ظاهرة التعاميم التي أصبحت أكثر تأثيرا من اللوائح الدائمة في تسيير العمل والتعامل مع الموظفين والمستفيدين، وبطبيعة الحال مثل هذا الوضع أدى كذلك لتأخر تنفيذ الكثير من المشاريع أو إنجازها بجودة منخفضة، مقارنة بما تم الإنفاق عليها من مال ووقت وجهد.
غياب مراكز البحوث والتطوير في الأجهزة الحكومية أدى لضياع فرصة معالجة الكثير من القضايا التي تهم المواطن في حياته اليومية ومستوى معيشته رغم الإنفاق الهائل الذي توفره القيادة ودعوتها إلى الاستفادة المثلى من الإمكانات المتاحة لخدمة الوطن والمواطن، وتوفير كل متطلبات تنميته وتمكينه من سبل العيش الكريم والمساهمة في التنمية بكل مجالاتها.
في ظل التنافس المحموم بين الدول والشركات في عالم يتغير بشكل متسارع، بات من الضروري عدم إهمال البحوث والتطوير بهدف المراجعة والتنقيح من ناحية، وبهدف تحسين الأداء ورفع كفاءة عمليات الإنتاج والجودة ومتابعة التغيرات المستمرة في البيئة وفي رغبات المستفيدين والخدمات التي تلبي حاجاتهم في الوقت المناسب والجودة المثلى والتكلفة المعقولة.
هناك فرق بين تكليف مكاتب الدراسات عند وقوع مشكلة وبين تكوين مركز بحوث وتطوير لكل جهاز حكومي مهم وفاعل في التنمية، يستطيع أن يقوم بهذا الدور منفرداً أو بالتعاون مع شركات القطاع الخاص، أو مع الجامعات البحثية التي تسعى لخدمة المجتمع، أو كونت مراكز ربحية تقوم على استثمار قدراتها المالية والبشرية، ولا شك أن نشاطات البحث والتطوير التي تعتمدها بعض الأجهزة الحكومية تعكس عنايتها بهذا الجانب وقناعتها بأهميته وحيويته في صناعة القرارات وإعداد الخطط الرشيدة القادرة على إحداث الفرق والتصدي للقضايا ومعالجة المشاكل قبل تفاقمها.
يبدو لي أن الكثير من القضايا المستدامة كالإسكان والصحة والتعليم والمواصلات والبنى التحتية والبطالة تحولت لدينا، رغم الإنفاق الهائل، إلى مشاكل تؤرق المجتمع، وتستفز صناع الرأي، وذلك بسبب ضعف مراكز البحوث والتطوير في الوزارات والأجهزة الحكومية المعنية، ما جعلها تهدر وتبدد الكثير من المال والوقت والجهد في التصدي لهذه القضايا دون جدوى.
ختاما، أتمنى من كل الأجهزة الحكومية المعنية بقضايا التنمية الشاملة، أن تعتمد تشكيل مراكز بحوث وتطوير متقدمة لصناعة القرارات وإعداد الخطط لتعظيم نتائج الإمكانات المالية الهائلة التي تنفقها الدولة، والإمكانات البشرية الكبيرة التي وفرتها حكومتنا للنهوض بالمهام التنموية بكل أنواعها وأبعادها.