من ذا الذي يقرض الحكومة الأمريكية مجانا؟
قريبا يقرر الكونجرس الأمريكي ما إذا كان يمكن للحكومة الأمريكية رفع سقف الدين ومواصلة الاقتراض أم لا، وبالطبع لا أحد يتوقع أن تتوقف وزارة المالية الأمريكية عن الاقتراض لما لذلك من آثار مدمرة، لا سيما أن آخر مرة أثير حولها هذا الجدل تم تخفيض التصنيف الائتماني للحكومة الأمريكية لأول مرة في تاريخها، وتبع ذلك هبوط حاد في مؤشر داو جونز بمقدار 635 نقطة. السؤال المهم هو أنه طالما أن الحكومة الأمريكية تستطيع الاقتراض بسهولة تامة وبمعدلات فائدة متدنية جدا، وصلت إلى صفر أخيرا، فلماذا لا تستمر في الاقتراض إلى ما لا نهاية؟
يبدو أن هذا ما سيتم بالفعل وأن تواصل الحكومة الأمريكية الاقتراض ليتجاوز إجمالي ديونها 20 تريليون دولار قريبا، من مستوى 18 تريليون دولار حاليا. كيف لها أن تتوقف عن الاقتراض وقد تمكنت بالفعل من اقتراض نحو تريليوني دولار منذ بداية الأزمة المالية عام 2008 بفائدة مقدارها صفر في المائة؟ نعم لقد تم بالفعل قيام مستثمرين وحكومات بإقراض الحكومة الأمريكية مجانا، فكيف يمكن حدوث ذلك؟ المسألة ليس لها علاقة بنظريات المؤامرة التي تقول إن هناك تواطؤا بين بعض الحكومات والحكومة الأمريكية، أو أن الأخيرة تمتلك نفوذا قويا وقوة سياسية ودبلوماسية تجعلها قادرة على إجبار الحكومات الأخرى على إقراضها، بل إقراضها مجانا! كما أننا لا نتكلم هنا عن قروض حسنة موجهة للحكومة الأمريكية، كون ذلك شبه مستحيل وخصوصا بهذه الكميات الكبيرة.
كيف إذا يمكن "لعاقل" أن يقرض جهة أخرى من حر ماله مقابل لا شيء؟ الجواب باختصار هو أنه أحيانا لا يوجد مكان مناسب لمن لديه مبالغ كبيرة سوى إيداعها لدى حكومة قوية اقتصاديا وماليا، حتى وإن تم ذلك بالمجان، بل أحيانا مع القبول بدفع فائدة مقابل ذلك.
لندخل في شيء من التفصيل كي نرى أساس المشكلة ولا نكتفي بالخطوط العريضة التي قد لا تكون مقنعة بشكل جيد. لنبدأ بالسؤال عن خيار إيداع المبلغ في مصرف، حيث نجد أن المصارف عموما تقدم ودائع قصيرة الأجل بفائدة أفضل من السندات الحكومية. لِمَ إذا لا يقوم من أقرض الحكومة الأمريكية لثلاثة أشهر بالمجان بشراء وديعة زمنية من أحد المصارف والحصول على فائدة أعلى من صفر، حيث يمكن حاليا الحصول بسهولة على نصف نقطة مئوية كوديعة من مصارف كثيرة؟ هناك عدة أسباب، منها:
1. المصارف عبارة عن كيانات اقتصادية معرضة لمخاطر مالية متنوعة، بينما الحكومة الأمريكية لا تزال تحظى بمستويات متدنية من المخاطر، وبحسب النظرية الحديثة للمحفظة التي تحدثنا عنها الأسبوع الماضي، هناك علاقة طردية قوية بين العائد والمخاطرة. لذا فهناك فئات من المستثمرين لديها الاستعداد للتخلي عن جزء من العائد مقابل نقص في حدة المخاطرة، وقد شاهدنا مرارا وتكرارا مصارف كثيرة تتعثر، بل تعلن إفلاسها. كما أن ارتفاع السيولة في المصارف الأمريكية يغنيها عن استقبال ودائع زمنية أو إصدار شهادات إيداع، كونها ليست بحاجة لمزيد من السيولة، لذا فإنها غالبا تعرض ودائعها بمعدلات فائدة متدنية قريبة من معدلات السندات الحكومية، فتصبح أوراق الدين الحكومية جاذبة بشكل أكبر.
2. السندات والأذونات الحكومية تتمتع بقابليتها للتداول، وهذه ميزة جاذبة للمستثمر الذي يرغب في حرية تسييل استثماراته بسرعة وبأقل تكلفة. صحيح أن بإلامكان سحب الوديعة قبل أجلها من المصرف ولكن ذلك يأتي غالبا بتكلفة أعلى وبمرونة أقل من تداول السندات والأذونات الحكومية.
3. هناك من يشتري أدوات الدين الأمريكية، أي يقرض أمواله للحكومة، بغرض التعرض لشيء من المخاطرة من أجل تحقيق عائد أفضل من مجرد إيداع أمواله لدى المصرف. ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك إذا كان المستثمر يقبل بعائد صفري أو حتى سلبي؟ كيف يمكن تحقيق عائد إيجابي بإقراض الحكومة مجانا؟ يتم ذلك بالاستفادة من التغير في سعر ورقة الدين، لا بالحصول على العائد منها. على سبيل المثال، في حال قام البنك المركزي بخفض سعر الفائدة، أو خالف التوقعات بإبقائها عند مستوياتها المتدنية، فإن السعر السوقي لورقة الدين يرتفع بشكل كبير نسبيا، فيحقق مالك الورقة ربحا رأسماليا يعوضه عن الفائدة الصفرية أو السلبية التي قبل بها، الأمر الذي لا يمكن القيام به في حال شراء شهادة إيداع من مصرف.
4. ميزة السندات والأذونات الحكومية أنه يمكن رهنها للحصول على تسهيلات مصرفية أو الدخول في استثمارات معينة، ما يجعلها مفضلة على ودائع المصارف، التي ليس من السهل التصرف فيها بأي شكل من الأشكال.
5. لا توجد غالبا ضرائب على شراء ورقات الدين الحكومية، بينما على مالك الوديعة المصرفية دفع ضرائب على الأرباح وعلى الربح الرأسمالي.
أما خيار الاحتفاظ بمبالغ نقدية كبيرة بشكل نقدي فهو خيار غير وارد لما في ذلك من مخاطر أمنية وصعوبات عملية.
طبعا هنا الحديث عن أذونات الخزانة التي مدتها ثلاثة أشهر أو أقل، وهي التي تقترض الحكومة من خلالها بالمجان، أما بقية أوراق الدين الأمريكية للآجال من عام وأكثر، فلا تزال الفائدة عليها موجبة، تصل إلى ربع نقطة مئوية لعام واحد وتتجاوز 2 في المائة لمدة عشر سنوات، وهذه تعتبر فوائد متدنية نسبيا، وأفضل مما هو متاح لحكومات أخرى كثيرة، عدا بعض دول منطقة اليورو. ما السبب في مقدرة بعض الحكومات الأوروبية على الاقتراض بفوائد متدنية جدا؟ هذا بالفعل أمر محير، كيف يمكن تفسيره؟
كيف لدول تعاني مشكلات اقتصادية معقدة، مثل إسبانيا وإيطاليا وفرنسا، أن تقترض بمعدلات فائدة أقل من حكومة الولايات المتحدة؟ على سبيل المثال، هذه الحكومات تقترض حاليا لمدة عشر سنوات بنسب في حدود 1,5 في المائة، بينما الحكومة الأمريكية تقترض بنسبة 2 في المائة؟ وكيف لدول مثل سويسرا أن تقترض بفائدة سلبية، أي تأخذ أموال المستثمرين وتعيدها ناقصة؟ الجواب باختصار يعود لقرار البنك المركزي الأوروبي بإطلاق برنامج تيسير كمي، ما يعني منح ضمان شبه مؤكد من البنك المركزي الأوروبي لسندات الدول الأعضاء التي تقوم بالاقتراض. لماذا إذا لا تقوم تلك الدول بالاقتراض بشهية عالية، لا سيما أنها في حاجة ماسة إلى سيولة تدعم اقتصاداتها المتهالكة؟ السبب يعود لمجموعة من الضوابط التي يفرضها البنك المركزي الأوروبي على الدول التي تقترض، كتحديد نسبة العجز في الميزانية ونسبة الدين إلى الناتج الإجمالي، ما يجعل تلك الدول تحد من شهيتها تلقائيا. أما سويسرا فإنها تقترض بشكل عكسي، كونها من أفضل وأقوى الموجودين، لذا تتجه الأموال إليها دون غيرها، ما يمكنها من فرض "عقوبة" على من يرغب في إقراضها.