رسالة الخطأ

لم يتم إنشاء الملف.


الملك عبدالعزيز وبُعد الرؤية

سأتحدث إليكم في هذا المقال عن الأثر الطيب الذي تتركه الرؤية الثاقبة في كثير من شؤون أمورنا. فلولا الله ثم بعد نظر المؤسس العبقري الملك عبدالعزيزــــ رحمه الله ـــ، لما أتيحت لمحدثكم ولزملاء كثيرين فرصة الابتعاث إلى الولايات المتحدة في وقت مبكر، 1959، لدراسة الهندسة وما يتعلق بعلوم البترول. كان جلالته كما هو معروف، إلى جانب صفاته القيادية المتميزة، إنسانا متنورا يدرك ما للعلوم الحديثة من فوائد في حياة الإنسان ورفاهية المواطن. فكان يجتذب رجال العلم المخلصين من كل صوب وجنس ويقربهم منه من أجل الاستفادة من علمهم وخبراتهم. ويحرص على تطوير وتنمية مرافق التعليم، بالرغم من شح الموارد آنذاك، وقبول كل ما جد من وسائل المواصلات والاتصالات. ولكن ما علاقة جلالته بموضوع ابتعاثنا ـــ رحمه الله؟
دعونا نبدأ من أول القصة. كان هناك شاب فذ وطموح، يقال له عبدالله بن حمود الطريقي، من مواليد مدينة الزلفي الجميلة، عام 1918. هذا الإنسان له سيرة طويلة وإنجازات كبيرة، وعطاء أكبر بكثير من عطاء إنسان بمفرده. غادر مدينته الحالمة بين الجبال وطعوس الرمال الفاقعة النقية على ظهر جمل إلى الكويت وهو لم يتجاوز الخامسة من عمره وكان حينها برفقة عمه. وبعد أن أمضى في الكويت والهند بضع سنوات، سافر بمفرده وبإرادته إلى مصر طلبا للعلم، وهو لا يزال في سن مبكرة. فقد كان دافعه الطموح غير المحدود بالرغم من صغر سنه. وكان يمتلك نضجا مبكرا لا يتوافر إلا لفئة قليلة من البشر. انتظم في الدراسة ومن ثم انضم إلى البعثة السعودية. أكمل دراسته الثانوية وكان ترتيبه الثاني على مدارس مصر. انتقل إلى كلية العلوم وتخرج منها جيولوجيا. عاد الجيولوجي عبدالله الطريقي إلى المملكة عام 1945. والتحق بالعمل لفترة قصيرة.
وهنا يأتي دور الملك عبدالعزيز ـــ غفر الله له ــ في مسيرة الطريقي. فقد سمع عن تفوق وطموح الشاب الطريقي وما يحمله من شهادة علمية لها علاقة مباشرة بالبترول. وهو يعلم رحمه الله أن البلد خالية تماما من المتخصصين في مجال صناعة البترول، عصب الحياة الجديد. ومن المؤكد أنه، رحمه الله، كان ينظر إلى المستقبل البعيد وإلى الفائدة الكبرى بدلا من الاستعجال وقبول الأدنى. فأصدر توجيهاته الكريمة بإرسال الطريقي إلى أمريكا لدراسة الماجستير، حيث مقر صناعة البترول، بالرغم من الحاجة الملحة لوجوده في المملكة آنذاك. وحصل الطريقي على شهادة الماجستير في التخصص نفسه من جامعة تكساس في ولاية تكساس المشهورة بإنتاج البترول عام 1947. وقرر أن يعمل لمدة عام مع الشركات الأمريكية لكسب مزيد من الخبرة العملية. عاد الشيخ عبدالله إلى المملكة وهو يحمل الشهادة العلمية ويحمل معها هم مستقبل البلاد وتحديات شركات البترول العملاقة، أو إجمالا الأخوات السبع التي كانت تسيطر على صناعة البترول من الاستكشاف إلى التسويق. وبذلك يكون قد حقق حلم المؤسس العبقري، نبتة مباركة.
تعين حينها الشاب الطريقي في مكاتب وزارة المالية في المنطقة الشرقية لبضع سنوات، ثم مديرا عاما لمديرية البترول والمعادن تحت مظلة الوزارة. وهو جهاز كانت مسؤوليته الإشراف على أعمال شركات البترول في المملكة. وكانت مهمة في غاية الصعوبة بالنسبة له، نظرا لعدم وجود مواطنين مؤهلين في ذلك الوقت يساعدونه على أداء ما هو مطلوب منه. كافح الرجل وحده وأنجز من المهمات خلال أقل من عشر سنوات، قبل توليه منصب وزير البترول، ما لا يستطيع إنجازه جيش من المهندسين والمحاسبين والمحامين. كان ـــ رحمه الله ـــ شعلة أضاءت لنا المستقبل. واستطاع بمجهوده وذكائه ومهارته التفاوضية أن يحصل للدولة على مكاسب مالية كبيرة وللمواطن على مكان راسخ في أعمال الشركة. وكان يقف مع مختصي شركات البترول العاملة في المملكة الند للند، على الرغم من محدودية إمكاناته البشرية. وأصبح عضوا في مجلس إدارة الشركة، مع زميل سعودي آخر. وكانت إنجازاته خلال السنوات التي قضاها في المديرية أكثر من إنجازاته الكبيرة بعد أن أصبح أول وزير بترول سعودي في عام 1960.
ونعود إلى القصة الرئيسة التي بدأناها برؤية الملك عبدالعزيز ومخططه طويل المدى. فقد تنبه الشيخ الطريقي إلى ضرورة الإسراع بتعليم وتأهيل المواطن ليصبح عنصرا فاعلا في صناعة البترول الذي أصبحت البلاد تعتمد على دخله، كما فعل جلالة الملك عندما بعثه إلى أمريكا. فقام شخصيا بالتنسيق مع الجامعة نفسها التي تخرج هو منها وأبرم معهم اتفاقية قبول وإدارة البعثات السعودية لمدة لا تقل عن عشر سنوات. واتفق مع وزارة المعارف لتقوم هي باختيار الطلبة والاعتناء بهم ورعايتهم.
وكنت أحد خريجي الثانوية عام 1959، عندما أعلنت وزارة المعارف عن عزمها بدء إرسال بعثات جديدة إلى أمريكا لدراسة الهندسة بفروعها. وكان اسمي ضمن المجموعة الأولى من برنامج الابتعاث الجديد. والشاهد هنا أن وزير المعارف عندما ذهبنا لمقابلته في الرياض قبل السفر إلى أمريكا، أوصانا بأن نتوقف في جدة للسلام على الشيخ عبدالله الطريقي. ومن هناك عرفنا أنه هو الذي عمل ترتيبات بعثتنا مع إدارة الجامعة. وبعد مقابلته والحديث معه، ولأول وهلة، شعرنا أننا أمام إنسان غير عادي ورجل يفيض بالوطنية والتواضع والحماس من أجل مستقبل أفضل. فكسب ــ رحمه الله ــ احترامنا وتقديرنا له وألزمنا تلقائيا مسؤولية كبيرة نحو مصلحة وطننا وأمتنا. وتعود بنا الذاكرة إلى القرار الحكيم الذي اتخذه المؤسس الملك عبدالعزيز، صاحب الفكر الناضج والنظرة البعيدة والتخطيط المتأني السليم. فلو لم يبعث الملك عبدالعزيز عبدالله الطريقي إلى أمريكا لمواصلة الدراسة العليا هناك، لربما ظل الأخير عند مستوى الدراسة التي أنهاها في مصر، ولا كان قد اكتسب اللغة والمهارات الفنية والعلمية والإدارية التي ساعدته كثيرا في كيفية التعامل مع فطاحلة صناعة البترول. وقد لا يكبر طموحه ويستمر حماسه لسنين طويلة، ومن ثم نكون نحن الطلاب قد فقدنا فرصة الابتعاث. والحمد لله أن الأمور كانت آنذاك تسير في الاتجاه الذي أراده الله وكتبه لنا ـــ رحم الله المؤسس ـــ، الملك العادل والأب الرحيم المتنوِّر، عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود وابن المملكة البار، الشيخ عبدالله الطريقي، رحمة واسعة. وقد دونت سيرة الشيخ الطريقي كاملة وبصورة جميلة في كتاب "صخور النفط ورمال السياسة".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي