رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


معضلة الحوكمة

مصير الاقتصاد الوطني مرتبط بمدى جودة الاقتصاد الجزئي ـــ اقتصاديات الشركات ـــ وما اقتصاديات الشركات إلا حوكمة فاعلة لتكوين ونمو رأس المال المادي والمعرفي والتنظيمي. غياب الحوكمة تدمير لكليهما وخاصة المعرفي في وقت يتميز بأهمية المعرفة والقدرات التنظيمية. سد النقص الواضح في الحوكمة تحد كبير، وأكاد أقول إنه مصيري. ما تقوم به الحكومة في الاقتصاد الكلي والمالية العامة مصيري أيضا ولكنه مختلف وفي فضاء آخر، إذ إن مصدر النمو في المدى البعيد في فعالية اقتصاديات الشركات. الحوكمة ليست نماذج ورقية توظف أحيانا في محاولات للتخفي والتمويه. الحوكمة عنوان كبير ومصطلح جامع وكثير التداول وقد يكون "مصنعا" للتخيلات واللوم والنقد والتذمر والنصائح ومدخلا لتقويم الشركات، ولكنه أخيرا وليد بيئة اجتماعية اقتصادية تنظيمية في مرحلة زمنية، ولذلك لا يمكن للحوكمة إلا أن تختلف من بلد إلى آخر. لدينا تحديات تنظيمية ونقص في التفكير التنموي. لعل أكبر تحد يواجه الحوكمة النشطة والفاعلة أن هناك نظرة "اختارت" الابتعاد، ولذلك ينأى الكثير عن الدخول في التفاصيل. أحد أعراض ومسببات إشكالية الحوكمة ظاهرة أسميها الهدر الاستثماري المبني للمجهول!
يضيع الاستثمار نفسه حين يكون المستثمر في الشركة لا يملك حصة مؤثرة، وبالتالي لا يبذل الجهد والاهتمام الكافيين لحماية الجزء الأكبر الذي لا يملك وبالتالي يبدي عدم إخلاص واهتمام لحوكمة الشركة. هذه الحالة سائدة في أغلب الشركات المساهمة، وبالتالي تأخذ الإدارة دورا ومسؤولية، إما ناقصة أو سيطرة أكثر من المقبول صحيا. تتعدد أشكال فقدان الحوكمة باختلاف قوة الشخصيات وضعفها وديناميكية التجاذب بين الأطراف.
تتطور فجوات تدريجية تكتشف مع الممارسة وتقود تدريجيا لتجاوزات وأحيانا فساد حتى وإن حققت الشركة أرباحا. التقصير في دفع الفعالية والربحية بسبب نقص الحوكمة يضعف الاقتصاد ويسبب خسائر كبيرة دون مساءلة. أحد مظاهر الإشكالية أن إدارة الشركات على مستوى المجالس والإدارت التنفيذية في الكثير منها أصبحت ناديا للأغنياء، ولذلك ليس لديهم الروح أو الوقت الكافي المستحق للقيام بأدوارهم. أحد تناقضات البيئة الحالية أن جودة الحوكمة في بعض الشركات الحكومية أفضل منها في شركات يملكها القطاع الخاص بسبب تموضع بعض الشخصيات القوية والنظرة النفعية دون مساءلة بما في ذلك اختيار أعضاء مجالس الإدارة وغياب النقاش الموضوعي الجاد.
الهدر الاستثماري له خلفية اجتماعية، وجدت ضالتها حديثا في غياب الحوكمة. تجاوزنا حقبة الهدر الاستثماري ولكننا لم نتجاوز حقبة الهدر الاقتصادي: المال. الحقبة الجديدة، فمثلا العلاقة بين جودة تعليم النخبة الفاعلة في الطبقة الوسطى وحوكمة الشركات والمنافسة التلقائية عضوية، ولكننا نتصرف إداريا على جميع المستويات وكأن ليس هناك علاقة. هناك من يصنف هذا الربط بأنه أكاديمي ومثالي استمرارا للنظرة الفوقية وإدارة الأغنياء بالتوافق في وسط مناسب ومريح لهم بعيدا عن استحقاقات التنمية والإنتاجية والمنافسة الشريفة والحقائق الاقتصادية العميقة مثل الربحية الاقتصادية وليس المالية. السعي للمصلحة لم يختفِ ولن يختفي ولكن التلاعب بمصطلح الحوكمة يجر إلى تعظيم المصلحة الفردية على حساب المصلحة "التكوينية والجماعية" ـــ تجسيد قوة اقتصادية وتنظيمية ومعرفية على المستوى الجمعي. لا بد للثروة أن تتركز وتتمرس على المنافسة والمرونة والحركة من خلال أطر مؤسساتية وليس تحت رحمة أفراد يتفننون أحيانا في الخداع العام.
الحوكمة نقطة تقاطع أشياء كثيرة ولذلك ليس هناك حل سحري. لا بد من حلحلة واقع صعب. ليس لدي معادلة أو تنبؤ بالمستقبل ولكن علينا أن نراجع واقع الحوكمة لدينا ليكون بمعايير وآليات عملية مؤسسية صرفة، لعل ذلك يقودنا إلى تحسن تدريجي يتجلى أثره في مختلف الشركات والمؤسسات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي