التسويق .. مصطلح غامض «2»
تطرقت في مقال سابق إلى مصطلح التسويق وذكرت أنه من المصطلحات التي يساء فهمها إما لغموضها، وإما بسبب نقلها الخاطئ إلى العربية. وقد اقترحت في المقال السابق إعادة كتابة التسويق من أجل إعادته إلى أصله وربطه بحقل الأعمال، ولا يمنع ذلك من ذكر إسهامات العلوم الأخرى في هذا المجال، ولكن وإن أسهمت إلا أن التسويق يظل أحد مفاهيم إدارة الأعمال ومن الوظائف الرئيسة لأي مشروع اقتصادي.
ولكي ينجلي الغموض وتتضح الفكرة ذكرت كذلك أن على المتخصصين في مجال التسويق عرض الكم الهائل من المعلومات حول التسويق على شكل ثلاثة أجزاء رئيسة. الجزء الأول يهتم بالناحية المعرفية ويشمل الموضوعات التي يحتاج إليها القارئ لفهم أصول التسويق وكيف بدأ. أما الجزء الثاني فيختص بالأدوات التي تحتاج إليها المنشآت قبل البدء في عملية التسويق، أي الأدوات الأساسية التي تحتاج إليها المنظمات قبل ممارسة العمل التسويقي التشغيلي وأرى أن تتكون من أربع أدوات وهي: نظم المعلومات التسويقية، دراسة البيئة التسويقية، سلوك المستهلك، وتجزئة السوق. أما الجزء الثالث فينبغي أن يكون خاصا بعرض المزيج التسويقي الرباعي 4ps أي العمل التشغيلي للتسويق وهي عبارة عن الوظائف الأساسية التي تتعين ممارستها وهي: المنتج، والتسعير، والتوزيع، والترويج. دعونا في هذا المقال نسلط الضوء أكثر على الجزء الأول وهو القاعدة المعرفية. أرى أن يتكون هذا الجزء من موضوعين رئيسين. الموضوع الأول يهتم بنشأة علم التسويق وتطوره والعلاقة بينه وبين الإدارات القريبة منه مثل الإنتاج، وهذا يقود إلى مناقشة مراحل تطور علم التسويق. أما القسم الثاني فيشمل عدة موضوعات هي: تعريف التسويق، وكيف يختلف التسويق عن المفاهيم المتقاربة كالبيع والإعلان، إضافة إلى علاقة التسويق بالعلوم الأخرى.
وحتى تتضح نشأة علم التسويق وتطوره Marketing يتعين علينا في البداية معرفة نشأة علم الإنتاج Production، ولكي تتضح لنا بداية الإنتاج نحتاج إلى استعراض العصور التي مر بها الاقتصاد كما يراها الغرب الأوروبي. أفضل من بيّن هذا من وجهة نظري سلطان (2010) في كتابه "خطواتك الأولى نحو فهم الاقتصاد". فقد ذكر أن الاقتصاد بدأ منذ أن كان البشر يبيع بعضهم بعضا في عصر السيد والعبد. فالإنسان أما أن يكون سيدا وإما أن يكون عبدا، وبهذا يمكن القول إن الإنسان كان ينظر إليه كسلعة تباع وتشترى كما تباع السلع الآن في الأسواق ولهذا سمى ذلك العصر عصر العبودية.
ثم انتهت فكرة السيد والعبد وحل محلها تقسيم جديد وتركيبة جديدة وهي الملاك والفلاحون ويطلق عليه عصر الإقطاع. وفي ذلك العهد أصبح الملك يوزع الأرض على النبلاء على شكل إقطاعيات، وكانت الأرض ـــ بمن فيها من أنفس، وشجر، وحجر، وبشر ـــ ملكا للنبيل، والفلاح موجود كي يكدح ويعمل ويدافع عن الأرض لمصلحة النبيل. ولم يكن الفلاحون يتقاضون أي نوع من الأجر، بل يعملون مسخرين كواجب اجتماعي ولكنهم لم يكونوا يعدون عبيدا بالشراء بل عبيدا للأرض ويطلق عليهم "أقنان الأرض". أما النبلاء فقد كانوا يسخِّرون إقطاعاتهم لدعم الملك في حروبه. ولم تغب الكنيسة عن هذا فقد كانت تأخذ من الناس الضرائب وتبيعهم صكوك الغفران مقابل وعد بإعطائهم الجنة.
وفي بداية القرن الـ 15 الميلادي مع اكتشاف الأمريكتين بدأت تتدفق على الموانئ الأوروبية حركة واسعة للسفن، ووجدت وظائف لرفع الأحمال، والتنظيف، وتحصيل الرسوم، كما تحتاج الموانئ إلى حدادين ونجارين، وبهذا تحولت الموانئ إلى مدن وفرّ كثير من الفلاحين من إقطاعيات النبلاء للعمل في الموانئ، وتحول الفلاح إلى عامل بسيط يعمل في الموانئ ثم إلى تاجر، وأصبح الفلاحون يرون أنفسهم أحرارا لأنهم أصبحوا يحصلون على أجر وبهذا تم تحرير عوامل الإنتاج من الفلاحين، والأرض، ورأس المال، وبهذا بدأت الإقطاعيات تضعف والمدن تتوسع فنشأت طبقة جديدة هي الطبقة البرجوازية وهي طبقة وسطى تفصل بين شريحة الملك والنبلاء من جهة وبين طبقة الفلاحين ظهرت بين القرنين الـ 14 والـ 16.
وتغيرت ملامح الاقتصاد فأصبح الملك يعتمد على الطبقة الوسطى بدلا من النبلاء حتى هددهم الفقر. بعدها نشأ عصر السوق أو ما يطلق عليه "عصر الرأسمالية" الذي تشكل منذ القرن الـ 16 وله جانبان ــــ كل يخدم الآخر ـــ سياسي، وآخر اقتصادي. الذي يهمنا هنا هو الجانب الاقتصادي الذي ارتكز على تنمية الملكية الفردية والسوق الحر، وأصبح هناك ادخار واستثمار، ونشأت المصارف وشركات التمويل. وما زال الوضع في تطور حتى أصبح الفرد يسعه أن يتسوق عبر الإنترنت كما نراه الآن.
هذه هي العصور التي مر بها الاقتصاد ـــ من وجهة نظر الغرب الأوروبي ـ منذ عصر العبيد، مرورا بعصر الإقطاع، فعهد الرأسمالية المطلقة التي يعيشها العالم هذه الأيام. أرى أن تعرض هذه العصور بهذا الشكل دون الدخول في جدليات أو عرض وجهات النظر المختلفة، فالهدف الأساس إزالة الغموض عن التسويق عن طريق إيضاح وعرض القاعدة المعرفية فقط. بعض الكتاب يسهبون في التفرقة بين الرأسمالية والاشتراكية كمبدأين اقتصاديين مختلفين إلا أن بينهما قدر من التشابه، بل إن البعض ذهب إلى أبعد من ذلك فيرى أن الرأسمالية المطلقة غير موجودة حتى عند من يحمل لواءها، حيث يرى هذا الفريق أن الرأسمالية التي نراها الآن ما هي إلا صورة من صور الاشتراكية لأنها (الرأسمالية) تعني تخلي الدولة عن دعم المواطن تماما ولكن في الوقت نفسه توفير الظروف المناسبة للكسب، والمنافسة ليست فقط بين الشركات بل حتى الأفراد.
أرى ترك هذه الجدليات جانبا وعرض القاعدة المعرفية مجردة حتى لا يتوه القارئ فالهدف الجوهري من كل هذا هو إعادة التسويق إلى أصله وإزالة الغموض الذي يكتنفه. وبعد عرض العصور التي مر بها الاقتصاد ندخل في الخطوة الثانية وهي العلاقة بين التسويق ووظائف المشروع الأخرى وخصوصا الإنتاج ومراحل تطور كل منهما، ونترك مناقشته للمتخصصين.
د. سعيد بن على العضاضي