مصائب الشركات.. فوائد للمجتمع
وصلت خلال الأسبوع الفائت الغرامات الأمريكية على شركة بريتيش بتروليوم إلى ما يزيد على 20 مليار دولار في أعظم عقوبة مالية تتحملها شركة في تاريخ الولايات المتحدة، هذا إضافة إلى ما يقارب 19 مليار دولار تكبدتها الشركة في عمليات تنظيف خليج المكسيك بعد حادثة التلوث المشهورة. لا يزال كذلك زخم قضية "فولكس واجن" يتسع بقضايا مرفوعة في ألمانيا وفرنسا بعد الإثارة التي حصلت في الولايات الأمريكية إلى جانب استجواب الكونجرس رئيس الشركة هناك.
يعاد النظر وتتحدث التشريعات وتتغير السلوكيات بعد الفضائح. صدور قانون "ساربنز ــ أوكسلي" بعد فضيحة شركة إنرون الذي أحدث تغييرات ثورية في تطبيقات الحوكمة والمراقبة الداخلية، يعد أفضل الأمثلة على ذلك. هذا التحسن في تشريعات حوكمة الشركات وأسواق المال لم يكن محصورا على قضايا العقدين الأخيرين فقط، بل هو موجود تاريخيا ويسهل توقعه بعد الفضائح التي يتم الإفصاح عنها في الأجواء اليقظة والمتفاعلة.
عندما رصد انخفاض معدل الجريمة في لندن في العقد الفائت، أثار بعضهم سؤالا جديرا بالطرح: هل كان هذا الانخفاض المرصود انخفاضا حقيقيا يعود لتحسن العوامل الاجتماعية والأمنية أم كان مجرد انعكاس لعدم تواكب وسائل الرصد والإفصاح مع سلوك المجرمين المتطور؟ بدأت الشرطة اللندنية ضخ إحصائيات الجريمة في أواخر التسعينات ما دفع الجهات الإعلامية إلى طرح البيانات ومعالجتها في رسومات وتحاليل معبرة، كذلك حفزت البيانات المتاحة المقالات العلمية الرصينة لمناقشة القضية وتبعاتها لإجابة مثل هذه الأسئلة. على الرغم من التشكيك في الإنجازات الأمنية للمدينة الصاخبة إلا أن تغير مستوى الشفافية وضع القضية تحت المجهر فتحولت إلى بند واضح يحاسب عليه مسؤولو المدينة ويستخدمه في الوقت نفسه السكان الجدد للمقارنة بين الأحياء التي تتنافس على تحسين إحصائياتها بكل وسيلة ممكنة.
تقارب قضية الجريمة في لندن فضائح الشركات في تناسق ثلاثي التأثير المهم: الإعلام والتشريعات والجمهور. يعتقد البعض بسوداوية الفضائح التي تؤرق عملية التنمية وتنبئ عن فساد فاضح لم يكن مكشوفا للمحاسبة في مرحلة ما. ولكن غياب الفضائح ـــ وليس وجودها ــــ هو ما يشكل المشكلة الأكبر التي تهدم كل مبادئ وأساليب الضبط والرقابة، وما يتبعها من تحسينات ومنافع محتملة وفرص لتفادي الخسائر والهدر. غياب الفضائح هو الفساد بعينه.
يصعب حصر الدروس المستفادة من فضائح الشركات المالية والبيئية المثارة حول العالم، وعلى الرغم من الخسائر التي ينالها البعض في وقت الأزمات إلا أن طرح القضية بالزخم الكافي غالبا ما ينتج تعديلات جوهرية في أساليب الرقابة والمتابعة والتي تهدف إلى حماية المجتمع من تكرار المشكلة. إضافة إلى ذلك تشكل الإثارة الإعلامية حافزا لمزيد من التحليلات والنقاشات، وهي بلا شك عنصر جذب مهم لجهود الباحثين ما يعزز عملية التعلم التي تحدث بطريقة طبيعية وإيجابية، فالقضية تصنع الدرس وتحليلها ومتابعتها مفتاح تعلمه.
لا نستطيع القول إن الفضائح إيجابية في حد ذاتها، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن استخدام مبدأ "الستر زين" مع أحداث تهم وتؤثر في أطراف المجتمع كافة. خروج فضائح الشركات للعلن وطرحها للنقاش بموضوعية وشفافية مطلب مهم. تقر هيئة الخدمات المالية البريطانية بأن كثيرا من التغييرات الجذرية في قوانينها صدرت بعد الإفصاح العام عن بعض الأحداث.على الجانب الآخر، هناك من يطالب بعدم المبالغة في تبجيل الفضائح، لأنها ليست ما يجب أن يقود التغيير ولأن بعض الأطراف تستغلها لتمرير مصالحها والضغط على المشرعين بطريقة لا تخدم الجميع.
تهدم الفضائح أمورا معنوية لا تعالجها التشريعات بسهولة، مثل الثقة، خصوصا أن مراحل التشريع والتطبيق تأخذ عدة سنوات على الأقل، بينما تهدم الثقة في يوم واحد. هذا في الحقيقة أحد أهم الأسباب التي تجعلنا لا نطالب بمزيد من الفضائح ولكن على الأقل بكشف ما يحدث منها حتى يتعلم الجميع.
من الأمور المشتركة في معالجة فضائح الشركات العالمية الدور القوي للجهات الإعلامية والتعليمية والتشريعية. كانت إثارة قضية فولكس واجن نتيجة لبحث جامعي؛ متابعة القضايا وإثارة الرأي العام ولفت انتباه المسؤولين مسؤولية الإعلام بالدرجة الأولى. بينما تنشط بعد الفضائح الخطوة الأولى في الدورة التشريعية بالمطالبات الجديدة والتعديلات. أي اختلال في أدوار الجهات المذكورة يعني اختلال في قدرتنا على الاستفادة من هذه الأحداث.
للجهات الرقابية دور مضاعف في تحقيق المنفعة، فهي من يكتشف الأمر، وهي من يكشفه. التمكين المعرفي والمهاري للجهات الرقابية والإشرافية، إضافة إلى الحماية القانونية لتمكينها من الإفصاح، من شروط تفعيل هذا الدور.
إن وجود كل هذه الأطراف في بيئة يقظة متفاعلة تتحقق فيها الاستقلالية الكافية كفيل بتحويل فشل هذه المنظمات إلى نجاح تنظيمي شامل. وفي مثل حالتنا المحلية التي نعترف بعدم اكتمال عناصرها بعد، قد يكون من الملائم التشجيع على إعادة طرح مثل هذه الأحداث حتى نتمكن أولا من الإجابة على سؤال مثل: كيف نستفيد من فضائح الشركات؟