التدخل في حياة الشعوب وسقوط الإمبراطوريات

تنهض أمم وتسقط أخرى وتقوى شعوب وتضعف أخرى، فهذه عاد الأولى وثمود الذين جابوا الصخر بالواد وفرعون ذي الأوتاد وقوم صالح ثم الإمبراطوريات المتلاحقة الرومانية، واليابانية، والبريطانية، والدولة العثمانية وقبلها الدولة الأموية فالدولة العباسية التي استمرت عدة عقود.
وقد بينت كتب التاريخ ومن أبرزها "مقدمة ابن خلدون" أهم أسباب سقوط الأمم التي يمكن اختصارها في الاستبداد، وسوء اختيار الأعوان، والظلم، وضعف الرقابة على المسؤولين، وفساد الاقتصاد، والترف والفساد الأخلاقي، وعدم تمييز العدو من الصديق، وضعف الأساس الذي قامت عليه الدولة، والكيد الخارجي، وعدم تنمية الجيوش، والانكفاء على الذات. هذه بعض الأسباب التي ذكرها المؤرخون، ولكن هناك سبب غفل عنه أهل التاريخ وفطن إليه أهل السياسة والمال ألا وهو التدخل في حروب خارجية. يقول روبرت كيوسكي عندما ناقش اقتصاديات الحرب "تنتهي الإمبراطوريات عندما تقاتل في معارك كثيرة وفي أماكن بعيدة". ولكي تتضح لنا الفكرة دعونا نستعرض بعض النهايات لبعض الإمبراطوريات التي انتهت وأصبحت أثرا بعد عين وكان السبب وراء سقوطها التدخل في حروب خارج بلادها. فها هي بريطانيا العظمى انتهت بسبب التوسع الجغرافي وتسلطها وحروبها في أماكن بعيدة من العالم. فقد بسطت الإمبراطورية البريطانية سلطتها على نحو ربع سكان العالم وغطت ربع مناطق الأرض ومنها معظم الولايات المتحدة. إلا أنه ظهرت عدة نزاعات تكلفت أمولا طائلة غير متوافرة لدى بريطانيا فاضطرت للاقتراض من المصارف العالمية، وعندما لم يغطّ العجز اضطرت إلى فرض ضرائب على المواطنين الأمريكيين لتوفير الأموال. فثار الأمريكان وأصدر الكونجرس، الذي يمثل حكومة عصيان وتمرد على بريطانيا، وثيقة أسماها "إعلان حقوق". بعدها قامت الحروب تترى بين الطرفين حتى تم توقيع البنود الأولية للمعاهدة التي اعترفت بها بريطانيا باستقلال الولايات المتحدة بعد ثماني سنوات من الحرب ووقعت معاهدة الصلح في باريس في سبتمبر 1783، وخرجت بريطانيا مهزومة، وذليلة، وفقيرة بسبب تدخلها في حروب خارجية وبعيدة.
وقبلها انهارت الإمبراطورية الرومانية عندما بدأ الرومان في تبديد أموالهم بأيدهم بسبب القتال في أراض بعيدة. وقد احتد النقاش حول كيف ومتى سقطت الإمبراطورية الرومانية. بعض النظريات تفسر تراجع الإمبراطورية الرومانية وتفككها بعدة أسباب أهمها: غزوات القبائل البربرية، والمشكلات الاقتصادية، والاعتماد المفرط على عمالة الرقيق، والفساد الحكومي، وعدم الاستقرار السياسي. ولكن السبب المرجح يعود إلى الحروب المستمرة والتوسع في أراض بعيدة. الحروب المستمرة أفرغت بشكل ملحوظ خزائن الإمبراطورية، كما تعرضت الإمبراطورية لشح في اليد العاملة فقد كان اقتصادها يعتمد على العبيد وكانت الحملات العسكرية تؤمن تقليديا تدفق يد عاملة جديدة من غزو الشعوب. في التاريخ المنظور رأينا كيف انهار الاتحاد السوفياتي، وسقط غير مأسوف عليه، وانفصلت أجزاؤه بعد دخوله أفغانستان وتسلطه على الأرض والجو والبشر والحجر. ورغم أن الجدل ما زال قائما حتى الآن حول أسباب سقوط الاتحاد السوفياتي، البعض يرى أن انهياره كان بسبب خلل في النظرية الاشتراكية القائمة على أفكار كارل ماركس، وفريدريك أنجلز، وفلاديمير لينين. إلا أن سقوطه بعد غزوه لأفغانستان يرجح أن السبب يكمن في التدخل في حياة الشعوب بحروب استنفدت الأموال.
وها هي التجربة المريرة للولايات المتحدة في فيتنام التي يبدو أنها لم تتعلم منها شيئا يذكر. رغم أن أبرز سياسييها يعلنون للمجتمع الأمريكي تداعيات ومخاطر الحروب خارج الأوطان وفي مناطق بعيدة، إلا أنها كررت الخطأ ذاته. فذهبت بمحض إرادتها إلى مقبرة الإمبراطوريات (أفغانستان) بحجة محاربة الإرهاب وتعقب الإرهابيين الذين زعم أنهم وراء تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) تلك الحادثة التي وظفت من أجل الاستثمار في الحروب والذي يدل على ذلك أنها نقلت عتادها من أفغانستان إلى العراق قبل أن تحقق أهدافها في أفغانستان بحجة أسلحة الدمار الشامل وبقيت هناك عدة سنوات حتى خرجت ذليلة، ومدمرة، ومحطمة فقد أفقرتها الحروب وشلت اقتصادها لدرجة أنها تلاحق مواطنيها خارج أراضيها من أجل دفع ضرائب لخدمات لم يستفيدوا منها.
وقد حذر الرئيس الأمريكي "آيزنهاور" في خطاب الوداع للبيت الأبيض في 17 يناير 1961، المجتمع الأمريكي من خوض حروب لا طائل من ورائها ووصف أن هذا تهديد من "المجمع العسكري الصناعي" فقال "هؤلاء لا يحاربون من أجل الشعب الفيتنامي أو من أجل سمعة أمريكا أو مصالحها بل من أجل إثراء المجتمع العسكري الصناعي"، ثم أضاف "كلما احتاج المجتمع العسكري الصناعي إلى مزيد من المال كان ببساطة يشن حربا جديدة".
هذا يقودنا إلى نتيجة نختم بها المقال وهي أن هذه الأحداث ستفتح المجال لقوى عظمى جديدة ستسود العالم والتي تقول غالبية النبوءات إنها الصين. ولو تزعمت الصين العالم فإنها ستبقى ـــ ما شاء الله لها أن تبقى ـ إذا هي التزمت بأخلاقيات العلاقات الدولية ولم تتدخل في حياة الشعوب ولم تفتعل حروبا خارجية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي