اليقين الصعب

يروي القاضي مادلين بيرلي قصة أحد المستشارين الماليين التي حكم فيها يقول: حين مثل أمامي كان على كرسي متحرك، وكان عبارة عن شاش أبيض بالكاد تظهر بعض ملامح وجهه، وسائر جسده كانت تلتف به الجبائر الصلبة، وكان شبه مسجى، وحين بدأ الحديث كأن صوته يأتي من إنسان يتكلم من داخل قبر متهدم، فقد كانت الكلمات بطيئة جدا ومؤثرة جدا، بحكم عمله كمستشار فقد كان يحسن اختيار المفردات الأكثر تأثيرا، ما حدا بعدد من المحلفات للبكاء المتكرر، أخبرنا أنه أثناء خروجه من مكتبه وقبل الوصول إلى سيارته الخاصة، وبسبب إهمال المقاول، وعدم تقيده بأنظمة السلامة بشكل صحيح، تهاوى على رأسه عمود من الحديد انتهى إلى تحويله إلى كومة متكسرة من العظام، وإلى فقده تركيزه، وضرر عقله، وإلى نسيانه كل ما أنفق عمره في تعلمه، ما يعني أنه سيعيش عاطلا ومعوقا طوال عمره، وأن أسرته سيكون قدرها أن تقوم بتحمل نفقات رعايته حتى يموت، ثم قدم جملة تقارير طبية تعزز كل كلمة قالها، وتثبت صحة كلامه، ولاذ بالبكاء الصامت، حين رفع صوته: أنا لا أستجدي أحدا سيدي القاضي، أنا ألتمس عدلك والمحلفين، بتعويضي بالقدر الذي يقيم حياتي حتى يتم مواراة هذا الجسد الميت قبل أن تخرج روحه.
هنا بكت اثنتان من المحلفين بصوت مرتفع، كما أني أنا شخصيا كنت على حافة البكاء تماما، وساد القاعة صمت ثقيل، حتى تكاد تسمع صوت أنفاس الحاضرين، ما عدا تلك الحشرجات المترددة التي كانت تصدر منه.
لم يكن يداخلني شك في أن الحكم بالثلاثين مليون دولار سيكون حتميا، وبالإجماع من المحلفين أيضا، إلا أن محامي الشركة طلب استراحة لمدة ساعة واحدة فقط وافقت عليها على مضض لأني في واقع الحال كنت أعتبر ما سيقوله مضيعة للوقت، وسعيا يائسا للانفلات من تحمل المسؤولية،
وحين رجعت إلى القاعة بعد الساعة التي طلبها محامي شركة البناء، وجدت شاشة تلفزيون عملاقة جدا، قد توسطت القاعة، وتم توصيلها بجهاز الفيديو، وطلب المحامي الأذن بالدفاع من خلال مقطع صغير سيكتفي به، توفيرا لوقت المحكمة والمحلفين.
وبدأ دوران القرص، لتظهر على الشاشة هذه اللفافة من الشاش والجبائر المسجى أمامي "المدعي" في الليل وهو يجري في الحديقة الخلفية لمنزله، ويمارس جميع التمارين القاسية جدا، ودون أن ينثني منه عصب ولا ضلع ولا إصبع
إن المحامي استعان ـــ بحسب النظام الأمريكي ـــ بمخبر سري ليوثق كذب المدعي، وتزويره لكل التقارير الطبية، وأن العمود في حقيقة الحال لامس فقط ظهره ملامسة سطحية ولم يصب رأسه وجسمه وإلا لكان تكسر الجمجمة لا مهرب منه، ومن العسير أن يظل حيا على وزن العمود المصنوع من الحديد الصلب، الذي يزن أكثر من طن ونصف على علو شاهق! إلا أن المستشار المالي في أقل من ثماني ثوان حسب الثلاثين مليون دولار كتعويض مجز، وتماوت وبدأ من لحظتها إتقان التمثيل ورشوة كل من حوله، وتوزيع حصص مالية عليهم بعد قبض الثلاثين مليون دولار، وهذا سبب التغيير الذي جرى على التقارير الطبية بعد ساعتين فقط من دخوله المستشفى!
يقول القاضي شعرت بالشفقة على نفسي لسرعة يقينها بالصورة التي تم تركيبها أمامي بشكل متقن! وكنت على وشك أن أكون طرفا في صناعة ضحية من خلال حكمي الجائر على الشركة!
وشعرت بالرضا الكبير وأنا أحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع تحميله جميع تكاليف المحاكمة والدفاع الذي تحملته الشركة وكان التأييد للحكم بالإجماع.
إن الدرس الذي تعلمته هو أن أحتفظ بالاحتمال النقيض دائما مهما كانت الصورة مقنعة، أن أظل أبحث لعل، ربما وقد، فقد بات اليقين هو أصعب ما يمكن الوصول إليه هذه الأيام، وما أكثر ما يظهر الظالم في صورة مظلوم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي