الإعلام .. وتنازع الحقيقة والثوابت والمصالح
منذ أن وجد الإعلام والنقاش بشأن وظيفته والأدوار الواجب عليه القيام بها لم يتوقف، وقد وجدت مدارس وتوجهات مختلفة بشأن وظيفة الإعلام؛ ففريق يرى أن الإعلام وجد ليخدم الدولة وبالتحديد الحاكم التي يوجد فيها ويسعى لتحقيق أهدافها، وفي هذا السياق لا مانع من الدفاع والمنافحة عن ممارساتها حتى ولو كانت هذه الممارسات فيها خلل وأخطاء وتخبط يكشف عن سوء إدارة، إما متعمد أو غير متعمد، أما الاتجاه الثاني بشأن وظيفة الإعلام فيتمثل في البحث عن الحقيقة، وإظهارها للجمهور بغض النظر عن الآثار المترتبة على الكشف عن الحقيقة، حتى لو كانت الآثار إثارة البلبلة، وإحداث الفوضى، وإدخال المجتمع في دوامة العنف، أما الاتجاه الثالث فهو ذلك الإعلام الذي يهتم بخدمة أهداف متفق عليها اجتماعيا، وتمثل حجر الزاوية للمجتمع بكامله كأيدولوجية يتبناها المجتمع، أو دين يعتقده، أو أهداف سياسية، أو اقتصادية يستفيد منها الجميع، ولا تخص فئة دون غيرها، وليست محصورة في ذات الحاكم.
هذه المدارس الثلاث أو التوجهات تأخذ الممارسات الإعلامية أشكالا عدة في محتوى المادة الإعلامية؛ إذ قد يكون غير مباشر في معناه، كما قد يقدم إما بصورة فيلم ترفيهي أو برنامج فكاهي أو حواري، ويكثر هذا الإعلام في وسائل الإعلام البصرية، والسمعية، أما وسائل الإعلام المقروءة فتبث الرسائل غير المباشرة من خلال الكاريكاتير، أو القصة، أو التحليل، ويتحقق التأثير بناء على قدرة ومهارة الكاتب، أو الرسام، كل هذه يمكن أن تحمل رسائل مبطنة وغير مباشرة تخاطب المشاهدين دون رفض أو تذمر من قبلهم وهذا أكثر تأثيرا في الجماهير من الخطاب المباشر الذي يستفز المشاهد ويحرك لديه الميكانزمات الدفاعية الرافضة لما يعتقد عدم صحته، أو ما يعتقد تهديده لثوابته أو الإضرار بمصالحه.
في السابق يطلق على الإعلام السلطة الرابعة، لكني أرى أنه لسطوة الإعلام وقوة تأثيره تقدم كثيرا على السلطات الأخرى، إذ أصبح الحاكم والقاضي ورجل المال يخشاه، وأصبحوا يتقربون منه ويقربونه في مجالسهم ومناسباتهم؛ لأن صورة أو كلمة قد تقضي على أحلام ومستقبل الحاكم لما يحدث من تشويه للصورة وإساءة للسمعة، أو خسارة الثروة، الذي يحدث بفعل تشويه السلعة أو الخدمة المقدمة. مقارنة بين الإعلام في عالمنا العربي والعالم الآخر تكشف أنه إلى وقت قريب، ولا يزال البعض من الحكومات يسخر وسائل الإعلام كافة لخدمة المصلحة الخاصة، حتى لو تعارض ما ينشر مع مصالح عامة الناس، أو مع ثوابتهم، وذلك في مسعى حثيث لإثبات صحة السياسات والإجراءات المتخذة في شأن اقتصادي أو خدمي أو تنموي، والغريب أن أسلوب الخطاب مكشوف ومباشر، ما ينفر الجمهور من وسائل الإعلام الآخذة بهذا التوجه.
الإعلام في العالم الآخر وبالذات الغربي مع أنه متحرر من سيطرة الحكومات وتوجيهها إلا أنه يأخذ بتوجه خدمة الأهداف المشتركة المتفق عليها اجتماعيا حكومة وشعبا، التي ربما نص عليها دستور البلاد، ولو أخذنا على سبيل المثال لا الحصر التغطية الإعلامية لأي عملية قتل تحدث في أمريكا لوجدنا أن الإعلام يتجنب الإشارة إلى الأسباب العنصرية وراء الحدث، كما في حادثة مقتل الشاب الأسود على يد الجندي الأبيض بهدف الإعلام وتنازع الحقيقة والثوابت والمصالح.