بناء مجتمع المعرفة .. ومسألة الدراسة على رأس العمل
عندما نتحدث عن مجتمع المعرفة فنحن نتحدث عن تفعيل تفكير الإنسان في قضايا الحياة، نتحدث عن توجهه نحو تلقي المعلومات والتفكير فيها واستيعاب مضمونها المعرفي، نتحدث عن شغفه بالإبداع والابتكار وتقديم أفكار جديدة أو متجددة، نتحدث عن رغبته في الشراكة المعرفية مع الآخرين والحوار الفكري والموضوعي معهم، نتحدث عن عمله على توظيف المعرفة والاستفادة منها إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا، نتحدث عن حسه والتزامه الأخلاقي في التعامل مع المعرفة، نتحدث عن التفكر والتدبر فيما نواجهه وما نتطلع إليه، نتحدث عن الحكمة فيما نقرر وفيما نفعل مهتدين بقوله تعالى في سورة البقرة "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب".
المعرفة، على أساس ما سبق، مكون رئيس فاعل من مكونات الإنسان. وهي ليست مكونا ثابتا، بل هي مكون متغير قابل للنمو والتوسع والتأثير. نحن اليوم نعيش في عصر المعرفة، العصر الذي تلقّى المعرفة النامية عبر السنين من العصور السابقة، وشهد بل ويشهد تسارعا في هذا النمو في الوقت الحاضر، وتواجه أجياله، بناء على ذلك، تحديا تنافسيا في أن تدخل السباق المعرفي مع الآخرين لتسهم فيه، وتستفيد منه، وتكون فاعلة ليس فقط في التأثر بمعطياته، بل في التأثير فيها أيضا.
وتتطلع المملكة العربية السعودية من خلال خططها الوطنية إلى تفعيل المعرفة في المجتمع وبناء مجتمع معرفي يستند في عطائه الاقتصادي إلى طاقات الإنسان المعرفية، وليس فقط إلى الموارد الطبيعية؛ إضافة إلى استفادته من هذه الطاقات أيضا في تعزيز جوانب حياته الاجتماعية والإنسانية. وقد شهدت المملكة منذ السنوات الأخيرة للقرن الـ 20 قفزات تعليمية غير مسبوقة تمثلت في إنشاء جامعات وكليات جامعية جديدة موزعة في مختلف أنحاء المملكة من قبل كل من القطاع الحكومي والقطاع الخاص؛ وتمثلت أيضا في الابتعاث الخارجي إلى مختلف دول العالم؛ وفي إطلاق التعليم الإلكتروني في مختلف الجامعات، إضافة إلى العمل على تطوير الجامعات القائمة، والاهتمام بتعزيز تفاعلها مع مؤسسات المجتمع المختلفة، والسعي إلى نقل المعرفة وتوظيفها.
بين قضايا التعليم المختلفة تبرز مسألة الدراسة على رأس العمل كموضوع رئيس يستحق الاهتمام لما له من أثر يمكن أن يسهم بفاعلية في دور التعليم في بناء مجتمع معرفي قادر على العطاء اقتصاديا واجتماعيا وإنسانيا. ولعلنا ننظر إلى هذه المسألة من خلال ثلاثة محاور رئيسة: محور يرتبط بدارس طموح لم يحقق تطلعاته التعليمية في الوقت المناسب ويبحث عن فرص يحقق من خلالها هذه التطلعات بعد أن التحق بالعمل؛ ومحور يختص بدارس يتوجه نحو دراسة تتعلق بمتطلبات عمله وتعزز أداءه فيه وتفتح له آفاقا مستقبلية في مجاله؛ ثم محور تكون فيه الدراسة ضرورة لعمل الدارس ويكون هذا العمل ضرورة للدراسة. وسوف نلقي مزيدا من الضوء على كل من هذه المحاور فيما يلي.
الدارس الطموح، في المحور الأول، الذي يتطلع إلى فرص تتيح له تأهيلا تعليميا لم يتمكن من الوصول إليه في الوقت المناسب، هو الدارس الرئيس الذي انطلق "التعليم عن بعد" من أجله. وقد كانت "الجامعة المفتوحة" في بريطانيا أبرز المؤسسات التعليمية التي أتاحت هذه الفرص منذ الستينيات من القرن الماضي. وقد انتشرت فروع هذه الجامعة في مختلف أنحاء العالم، كما برزت جامعات أخرى مثيلة، بل إن كثيرا من الجامعات القائمة قدمت، إلى جانب برامجها المعتادة، برامج خاصة للتعليم عن بعد، بينها على سبيل المثال، ما كان يسمى برامج الانتساب. وقد استفاد التعليم عن بعد من التقدم في تقنيات المعلومات والاتصالات والإنترنت في تعزيز انتشاره، وأصبح كثير من الجامعات يقدم مثل هذا التعليم "إلكترونيا" لمن يرغب فيه ويتطلع إليه. وقد تبدو الاستفادة من هذا التعليم شخصية وتقتصر على الدارس الطموح، لكن فائدتها الفعلية ترتبط أساسا بالمجتمع، لأن الإنسان هو العنصر الحي في المجتمع، وتطوير إمكاناته المعرفية تطوير للمجتمع بأسره.
ونأتي إلى المحور الثاني حيث يرتبط موضوع الدراسة بموضوع العمل، وحيث تعطي الدراسة للدارس إمكانات ومهارات جديدة تفيده في عمله، وتفتح له فرص الارتقاء فيه. وعلى ذلك فإن الدارس، وكذلك جهة عمله، مستفيدان استفادة مباشرة من الدراسة، ناهيك أيضا عن استفادة المجتمع حيث تصبح مؤسساته من خلال هذا النوع من الدراسة أكثر كفاءة وفاعلية. ولعل بين أمثلة هذا المحور توجه الشباب من مختلف المؤسسات العاملة في شتى المجالات نحو دراسة ماجستير إدارة الأعمال، سواء إلكترونيا، أو بالحضور المسائي. فوائد هذه الدراسة ستمتد من الدارس إلى مؤسسة عمله، ومن مؤسسة عمله إلى المجتمع بأسره.
ننتقل إلى المحور الثالث، حيث الدراسة ضرورة لعمل الدارس، وعمله ضرورة لدراسته. فهذا الوصف للدراسة قائم فعلا في برامج الدكتوراه في كثير من بلدان العالم. في هذا المجال، يعد الدارس رسالته للدكتوراه في الجامعة لمصلحة شركة أو مؤسسة هو موظف فيها؛ أو يعمل في الشركة ذاتها أو المُؤسسة بإشراف الجامعة التي يحصل على درجته العلمية منها. وينتشر تطبيق مثل هذه البرامج بصورة خاصة في ألمانيا، وفي دول شمال أوروبا المعروفة بالدول الاسكندنافية. يضاف إلى ذلك أن هناك بين الدارسين السعوديين في الخارج من يعد أبحاثا ترتبط بالمملكة حيث يأتي إلى المملكة للقيام بإعدادها، ثم تقديمها بعد ذلك إلى الجامعة التي يدرس فيها. ونحن نحتاج بالتأكيد في جامعاتنا إلى بحوث مثيلة للدكتوراه تتوافق مع متطلبات المملكة ومع احتياجاتها.
ليس بناء مجتمع معرفي قادر على العطاء مهمة محددة تبدأ وتنتهي، بل إن هذا البناء هو منهجية لعمل مستمر يبدع ويبتكر ويستجيب في ذلك للمتطلبات المتجددة مع التنبه دائما للمتغيرات المختلفة وتأثيراتها. ولا شك أن الاهتمام بالتعليم وقضاياه ومعطياته، سواء في جامعاتنا أو في الجامعات الأجنبية، ضرورة رئيسة من ضرورات بناء هذا المجتمع ومتابعة احتياجاته. وفي هذا الإطار، لا بد من أخذ مسألة الدراسة على رأس العمل في الحسبان، كقضية رئيسة مهمة لأن فيها تفعيلا لإمكانات الإنسان وتحفيز لطموحاته؛ وفيها فوائد لعمله وأدائه ومعطياته؛ وفيها أيضا تفاعل تغذيه روح الإبداع بين الخبرات الأكاديمية والاحتياجات التطبيقية. ولعلنا نسعى إلى تسهيل كل ما يفعّل الدراسة على رأس العمل في المستقبل.