حادثة «التدافع».. وسياقات «النقد»
السياقات هي الظروف التي يقع فيها الحدث أو يساق فيها الكلام أيا كان نوعه "توجيه، لوم، عتاب، نقد... إلخ)، ولا شك أن من لديه فطرة سليمة common sense للحكم السليم أو التصرف السليم على أساس تصور بسيط للحالة أو الوقائع، يدرك متى يتكلم ومتى يصمت، ومتى يثني ومتى ينتقد، ومتى يطبطب ومتى يعاقب وهكذا.
الفطرة السليمة لأي إنسان لديه شيء من الفهم والثقافة تجعله لا يتفوه بكلمة نقد أو لوم لبلادنا المملكة العربية السعودية عند وقوع أي حادثة لوجود سياقات تتطلب ذلك، حيث تخوض بلادنا حربا ضد مشروع طائفي استراتيجي تقوده إيران وهي حرب متعددة الساحات.
من هذه الساحات ما هو عسكري حيث تتصدى بلادنا لإرجاع الشرعية لليمن التي اغتصبت من قبل عصابة حوثية تعمل في إطار مشروع الولي الفقيه الفارسي، ومنها ما هو إعلامي حيث تقود إيران وأتباعها ومن يدور في فلكها حربا إعلامية لتشويه صورة بلادنا وتحميلها قضايا الإرهاب في المنطقة من خلال عشرات الفضائيات والصحف والمجلات التقليدية والإلكترونية ووكالات الأنباء لتشويه صورة بلادنا بالأخبار الكاذبة التي لا أساس لها، أو بتحريف الأخبار الحقيقية وتضخيمها وإخراجها عن سياقاتها الطبيعية ووضعها في سياقات مسيئة والمبالغة في وصفها بما يسيء لبلادنا وسياساتها وجهودها وإنجازاتها وعلاقاتها.
آلمني ما وقع فيه كثير من المواطنين وخصوصا المشاهير منهم والذين يحظون بمتابعة عالية وتأثير في الرأي العام من خلال مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، بالمسارعة في توجيه النقد اللاذع والجارح لبلادنا والمسؤولين والقائمين على تنظيم الحج بعد وقوع حادثة "التدافع" دون التفكير في السياقات التي تعيشها بلادنا، وتربص العدو الفارسي وأتباعه الذين ما برحوا يخططون ويعملون منذ عقود وفي كل موسم حج للتخريب بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك محاولة إدخال المتفجرات وتنفيذ التفجيرات وأعمال الشغب والمظاهرات لاستثمار ذلك في التأكيد على فشل بلادنا في إدارة موسم الحج والمطالبة بتدخلات دولية لإدارة موسم الحج. نعم، النقد الإيجابي لا يصدر إلا من محب لمن يحب، حيث يبذل الناقد جهدا كبيرا في التحليل والتشخيص للموقف والأخطاء واقتراح الحلول للاستفادة منها في تجنب الوقوع في الأخطاء، والارتقاء بمستوى جودة الخدمات أو المنتجات أو الإجراءات. بكل تأكيد سيؤتي النقد الإيجابي أكله إذا جاء في الظروف الطبيعية أو جاء في سياقات مناسبة في الظروف الاستثنائية وإلا فإن آثاره السلبية، وإن كان صحيحا 100 في المائة، ستكون أكثر من حسناته وسيؤدي لإيجاد حالة متوترة، وربما حالة من العداء بين الناقد والمنتقد وهنا الطامة الكبرى إذ لا إصلاح تحقق ولا علاقة بقيت، فما بالنا إذا كان النقد يفتقد تحري الدقة والمصداقية.
عدم فهم السياقات من قِبل الناقد وعدم أخذها في الحسبان عند حساب الأوزان النوعية لأثر جميع المتغيرات الداخلة في المشكلة أو الحادثة يجعل الطرف المنتَقد يشكك بنوايا الطرف الناقد لظنه أنه يتصيد في الماء العكر ويتحين الفرصة لتصفية حساباته وإخراج مكنونات نفسه، ولا شك أن هذا الظن يزيد من حالة التوتر والقطيعة وربما الصدام أيضا.
لنأخذ أسباب مشاركة بعض الشباب السعودي في الصراعات الدولية والإقليمية والانضمام لمجموعات أو أحزاب إرهابية، ولنأخذ تحميل بعض النقاد مناهجنا التعليمية مسؤولية تلك المشاركة كسبب رئيس رغم كثرة الأسباب وتفاوت قوة أوزانها النوعية نسبة لأثر المناهج التي خرّجت الملايين الذين يحملون أفكارا متعددة وما ترتب على ذلك النقد غير الدقيق من تشكيك في نواياهم وردة فعل المسؤولين في الدولة والقائمين على إعداد المناهج التعليمية في الماضي والحاضر حيالهم شخصيا والاتهامات الناشئة عن ذلك، وردة فعل الرأي العام الذي يرى في النقاد شيئا من التجني وتصفية الحسابات.
لو أن النقاد أخذوا سياقات مشاركة شبابنا في العمليات الإرهابية بالمنطقة والوزن النوعي لكل سبب، ولم يركزوا على المناهج ورفع وزنها النوعي لدرجة عالية رغم أنها لا تمثل شيئا مقارنة بالوزن النوعي العالي للعنف والعنف المضاد، ولدور الدول صانعة الإرهاب وموقدة الفتنة الطائفية كإيران وأتباعها الذين أعادوا هيكلة الفكر الطائفي في المنطقة وأسسوا الأحزاب الطائفية والميليشيات الإرهابية من جميع الطوائف ودعموها بالمال والسلاح والمواقف السياسية، أقول لو أن النقاد التفتوا لهذه السياقات لكان لنقدهم قبول وأثر كبير كما يتمنون ونتمنى جميعا لأنه بهذا الشكل يضع اليد على الجرح دون جدليات غير مقنعة.
لنعد إلى حادثة "التدافع" التي انطلق على أثرها بعض الناقدين من أبناء الوطن بتحميل المسؤولين عن الحج أسباب هذه الحادثة وطرحهم للمشكلة تحليلا وتشخيصا ومعالجة دون الالتفات للسياقات السياسية التي تشهدها المنطقة، ودون الالتفات لتهديدات عصابات إيران ومليشياتها، ودون الالتفات للمتربصين ببلادنا وسمعتها الذين ينتظرون أي كلمة نقد من أبناء الوطن ليضخموها ويضعوها في إطار "وشهد شاهد من أهلها" ليقنعوا أتباعهم والشعوب المغلوبة على أمرها التي تتأثر بالإعلام دون تفكير أو تمحيص بما يفترونه على بلادنا للتقليل من جهودها الجبارة في خدمة الحجيج كل عام والموازنات الهائلة التي تنفقها بلادنا لتقديم أفضل وأرقى وآمن الخدمات لضيوف الرحمن.
أقول لنعد إلى ذلك ولنر هل أنصفنا بلادنا بحسنا الفطري الذكي وبحسنا الوطني وباستشعارنا السياقات العامة التي تعيشها بلادنا والمنطقة، وهل صبرنا لنحصل على المزيد من المعلومات الدقيقة لنشكل صورة دقيقة مترابطة الأجزاء للحدث في إطار السياقات العامة لنقرر ماذا نكتب ومن خلال أي قناة إذا أردنا إصلاحا؟ أكاد أجزم أن معظم، إن لم يكن كل من كتب مباشرة لم يقم بذلك بتاتا.
ختاما، أتطلع من جميع الإخوة صناع الرأي من كتاب وإعلاميين وشخصيات مؤثرة، إلى عدم التسرع في النقد والالتفات بشدة للسياقات التي تقع بها الأحداث والمشكلات وأخذها في عين الاعتبار، وتركيز بوصلة الكتابة نحو الإصلاح في إطار تحسين صورة بلادنا وتعزيز مكانتها بين الأمم.