حزن المملكة الجميل
لا راد لقضائه، ولا مبدل لحكمه ــ سبحانه وتعالى ــ وهي ساعة الأجل التي لا تتأخر، ولا تتقدم، هو تقدير الأرض التي كان في اللوح المحفوظ أن تأوي إليها شهداء الحرم، هكذا كان القدر المقدر، والقضاء الممضي، أن ينالوا حسن الخاتمة، وأن يكون الفصل الأخير من حياتهم. رحل الحاج لطلب رضا ربه، فاصطفاه ربه إليه، وإليه كان المأوى والمآب.. راحلون إلى الله بجلال الطهر التام المكتمل الذي يتم بعد تمام العمرة والفراغ من أعمالها وفرضها!
خادم الحرمين، لم ينتظر تحقيقا يكيف القضية، ويحكم على الواقعة في أسبابها ومسببها، فيما يتعلق بأمرين، تحمل المسؤولية، وتعويض أسر الشهداء وببذل يساوي بين ضيوف الرحمن، دون النظر لحجم تفاوت الديات في أوطانهم. إن ضيف الرحمن هنا بمنزلة النفس التي تعدلها وتساويها، حتى لو كانت دية النفس في بلده لا تزيد على خمسة وعشرين ألف ريال مع فارق العملة جاء القرار الملكي بالتعويض بمليون ريال.. أيا كانت الأسباب، ومهما كانت المبررات، حتى لو كانت قضاء ممضيا وقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ.
تولى الديوان الملكي مباشرة الرعاية التامة للجميع دون استثناء أو توقف عند جنسية أو مذهب أو خصومة سياسية، كان القرار الملكي ألا يحرم مصاب الحج من خلال تهيئة فرق طبية مرافقة، وتطويع المشاعر لتستقبل نسك المصابين، وبذا تم تخصيص سيارة إسعاف لكل مصاب مع مرافقيه من الممرضين والأطباء بحسب مقتضيات الحاجة والحالة الصحية للمصاب. وهكذا تم موقف عرفة بكل جماله وجلاله المنفتح على الله وهذه الرحمة الغامرة بهم. وفي واحد من معابر التفويج لمزدلفة أنسكب هذا السيل المهيب من سيارات الإسعاف مولية وجهها تلقاء مزدلفة، تاركة المشعر الحرام، بقلوب ضاجة غامرة بكل هذه الرعاية، التي يمكن النظر إليها بوصفها غير واجبة ولا لازمة على المملكة، حتى ينقضي التحقيق، وتثبت المسؤولية المباشرة على المقاول وهو وحده حينها من يتعين عليه أن يتحمل الضرر الناشئ، وما ترتب عليه ومنه.
في كل نسك، ومع كل شعيرة من شعائر الحج، وفي كل ركن وزاوية وحضور وغياب وليل ونهار كانت الرعاية التامة لهم وعليهم دون انقطاع، وفي نهاية الأمر سيتم تعويض الضرر بنصف مليون ريال أيضا.
إني أسرد هذه التفاصيل لمسألة أريد أن أقررها في هذا السطر الآن، إن هذا القرار كما نعرف يأتي متمما لقرار إيقاف المقاول الرئيسي عن العمل بشكل فوري ومباشر، إلا أن كل هذا الذي جرى وتم. وحضور الملك بشخصه للإشراف على كل التفاصيل، وعيادة المصابين. إلا أن من كان فمه مرا سيرى مرا الماء الزلال، بالرغم من كل هذا الذي تم وقامت به المملكة، إلا أن الفجور في الخصومة لم يشفع لها، ولم يجعلها جديرة بالثناء أو الشكر أو الامتنان على كل الذي بذلته بما هو فوق الأعراف الدولية في مثل هذه الحالات كما نعرف. في كثير من الدول السياحية، تحدث كوارث مماثلة ومشابهة، وكانت سفارات المصابين هي التي تقوم على رعايتهم، ودفع فواتير علاجهم، ثم تتم مقاضاة الجهة المسببة للحادث دون تدخل من الدولة. كما في سقوط منطاد مصر، وفي أوروبا تتولى شركات التأمين التعويض أيضا.
من الناحية القانونية وبحسب الأعراف الدولية، كل هذا الذي قامت به المملكة هو كرم ضيافة لضيوف الرحمن بلا منة ولا طلب شكر من أحد، ولا تنتظره ولا ترجوه من أحد.
لكن أن يتحول هذا الكرم العظيم لسبب ما، للنيل منها فهذا والله الفجور في الخصومة، والفجور في حق ولي النعمة. ومن لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق. إن هذه الحادثة حزينة جدا، ولكن المملكة حولت حزنها لحزن جميل بكرمها العظيم وتحميل المسؤولية لمن يثبت أنه سبب فيها دون مواربة أو تبرير.