رأس المال أم الإنسان؟
ما زالت مسألة تدفق اللاجئين من المشرق العربي إلى أوروبا وبأعداد هائلة محور نقاشات حامية على أكثر من مستوى.
وتتصدر أخبارهم صفحات الجرائد، ويتابعهم الناس على شاشات التلفزيون في حلهم وترحالهم، والكل تقريبا مشغول ومشغوف بهم في وسائل التواصل الاجتماعي.
في مقال سابق حاولت فهم وتفسير ظاهرة اللجوء والخطاب الغربي الخاص بها من خلال استخدام مفاهيم أو بالأحرى مصطلحات أكاديمية نتداولها عند تحليلنا للغة التي تنقل لنا الحدث.
وواحد من المفاهيم نطلق عليه السردية، أي narrative. مصطلح "السردية" ترجمة أمينة وتعكس مفهوم الـ narrative بصورة بديعة.
والسردية باختصار شديد تعني المفاهيم التي يعكسها خطابنا والتي تتردد فيه إلى درجة يتقبلها الناس وكأنها الواقع أو الحقيقة بغض النظر عن صدقيتها.
وتحليل الخطاب الغربي الخاص بتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين إلى الغرب وعلى الخصوص الدول المنضوية في الاتحاد الأوروبي تظهر سرديات narratives مختلفة.
لن أستطيع إدراجها بمجملها هنا؛ لأن هناك سقفا لعدد الكلمات عليَّ الالتزام بها ككاتب عمود وهي لا تتجاوز بضع مئات. أبحاثنا الأكاديمية قد تصل إلى عشرة آلاف كلمة ونيف.
ولكن دعني أركز على أبرز السرديات التي وردت في الخطاب الخاص بهذا "التدفق" أو "السيل الجارف" حسب الوصف الذي وردنا من خلال وسائل الإعلام.
في بداية الأزمة كانت هناك سردية تستشف منها أن الغرب ولا سيما بعض دوله يملؤها الحنان والرفق والمحبة وأنها فتحت قلوبها لهم وأبوابها على مصاريعها لهؤلاء المساكين.
وانخدع الكثير منا وتصور أن الغرب له بعد إنساني لا ولن يصل إليه الشرق العربي الذي يهرب مواطنه من بطش حكامه إلى أحضان الغرب الدافئة.
بيد أن فورة الحنان هذه لم تستمر إلا أياما عديدة وظهر أنها كانت مسألة علاقات عامة أكثر من كونها إحسانا وكرما.
وظهر أن هناك تضخيما هائلا ومخيفا لأعداد المهاجرين في السردية التي من خلالها تلقينا معلوماتنا عن قدومهم.
لو قبلت أوروبا كل المهاجرين السوريين الذين غادروا الشرق الأوسط طلبا للجوء في الدول الغربية لشكلوا نسبة أقل من 0.01 في المائة من مجموع عدد سكان الاتحاد الأوروبي الذي يبلغ 500 مليون نسمة.
في بعض الدول المجاورة لسورية تصل نسبة المهاجرين السوريين فيها إلى نحو 30 في المائة من سكان البلد الأصليين. بالطبع هناك فوارق في الخدمات العامة، ولكن تدني أو سمو مستويات الخدمة ليس دائما مؤشرا لمستوى إنسانية الحكومة والدولة.
الدول الغربية لها إمكانات جبارة وميزانيات ضخمة. ميزانية السويد ذات التسعة ملايين نسمة قد توازي ميزانية 300 مليون عربي في الشرق الأوسط.
وأظن أن الأجر الذي ستحصل عليه أرملة فقيرة تبرعت بدرهم من عدة دراهم هي كل ملكيتها أكثر عند الله من ملايين الدراهم لغني ثري قد لا تتمكن مكائن العد الإلكترونية إحصاء ملايينه.
ودعني أختم المقال بالتحدث عن السردية التي تناولت موضوع اللاجئين من منظار أو مفهوم مختلف تماما. هذه السردية بالذات يحاول الإعلام تجاوزها وأصحاب الشأن التهرب منها أو العمل على عدم التطرق إليها البتة.
وهذه السردية بالذات تقحم تبجح الغرب بأنه شعلة الحرية وحقوق الإنسان. الحرية وحقوق الإنسان قيم بشرية وإلهية سامية وانتهاكها خطيئة وشر لا يجوز القبول به.
المشكلة هي أن الغرب يمنحها لفئة محددة دون أخرى ويجعل منها وسيلة لتحقيق غايات سياسية ومنافع اقتصادية ويطبقها في حقل ويتجاهلها لا بل ينتهكها في حقول أخرى.
جرى التركيز في هذه السردية على الحرية التي يمنحها الغرب لانتقال رؤوس الأموال إليه والحرية الشاملة تقريبا التي يحصل عليها أصحاب الأموال من الشرق العربي لتحويل رؤوس أموالهم وإيداعها في المصارف الغربية أو استثمارها في البورصة أو مشاريع أخرى.
بسرعة البرق تنتقل المليارات من دول فقيرة هي في أمس الحاجة إليها إلى استثمارات في الغرب.
وكذلك كيف أن الغرب جعل من "العولمة" سردية خاصة تجعل انتقال رؤوس الأموال والسلع بسرعة ودون قيود جزءا من الحقوق والحرية.
المال الذي لا حد له يدخل الغرب ويزيد عجلة اقتصاده وواحد من مصادره الرئيسة الشرق العربي. انتقال رؤوس أموال دون قيود جزء أساسي من الحرية وحقوق الإنسان.
انتقال المضطهدين والمهجرين الذين ضاقت الحيلة بهم من اضطهاد قد يكون الغرب ذاته سببه المباشر يضعون له ألف قيد وشرط ويجعلون منه منة ويسردونه وكأنه قمة في الأخلاق الإنسانية وحقوق الإنسان.
رأس المال العربي مرحب به في الغرب دون قيد أو شرط. أما المهاجر ــــ الإنسان ـــ فيسدون في وجهه الأبواب.