هل هو تشاؤم أم نصيحة؟
كنت أتحدث عما يخبئ المستقبل لشعوب خليجنا الحبيب، التي تصر على استنزاف ثرواتها الفانية بإسراف يفوق الوصف. وهناك من يتقبل القصد من التذكير بما نحن عليه من غفلة وعدم إلقاء نظرة على وضعنا الذي نعيشه اليوم من رفاه وعدم إنتاجية، والعالم من حولنا يعمل ويبدع وينطف من العرق من أجل كسب لقمة العيش. وفئة من شعوبنا الخليجية لا يطيقون سماع الحقيقة، ويفضلون الاستمرار على ما هم عليه من غفلة وعدم اهتمام بمستقبلهم، بصرف النظر عن العواقب الوخيمة التي تنتظر أولادهم وأحفادهم بسبب إسرافهم وغياب الحكمة في تصرفاتهم. يقول أحدهم ببراءة غريبة، لماذا يا أخي هذا التشاؤم المزمن؟ أقول، هو قلق مزمن، نعم. ولكنه ليس تشاؤما بالمعنى المتداول. وقلت له، دعني أكن أكثر وضوحا معك، هل تريد أن أعطيك مثلا بسيطا يوضح لك بكل سهولة ويسر الفارق الكبير بين التشاؤم والنصح؟ تخيل يا أخي لو كنت تسير على طريق ممهد فوق هضاب تطل على وديان وسهول جميلة. والهواء العليل يهب بهدوء ولطف، مغيرا اتجاهه من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وأنت مستمتع بما تشاهده من حولك من المناظر الجميلة والخلابة. ويقابلك إنسان قادم من الاتجاه الآخر الذي أنت تقصده. فيقول لك محذرا، بعد أن يلقي عليك التحية والسلام، انتبه يا هذا فالطريق الذي أنت سائر عليه ينتهي بمنحدر عميق. أي خذ حذرك ولا تسر وقت الظلام فتسقط في الهوة من حيث لا تدري. فماذا يا ترى تسمي ذلك الإنسان، ناصحا أم متشائما؟ وهناك فارق كبير بين أن تكون ناصحا وبين أن تكون مبالغا. فإذا كان الناصح والمنبه والمحذر ليس له مصلحة شخصية ولا يطوله منفعة، فمن باب أولى أن يكون ناصحا لله، لا يريد جزاء ولا شكورا.
ولكن الذي يضيق الصدر هو الإفراط في عدم قبول الحديث عن المصير المجهول. وهذا ناجم عن غياب الخيال وتصور زمان ما بعد النفط. فلا أحد يريد أو يتجرأ على التفكير في الأمور المستقبلية ما دام يعيش اليوم شبعان وكاسيا ومطمئنا. ومن النادر أن تجد في مجتمعاتنا الخليجية من يدرك الحقيقة المرة ويعرف أن وضعنا الحاضر غير طبيعي. فشعوب تأكل مما لا تزرع ولا تصنع وتلبس من نسج وخياط غيرها وتركب وسائل نقل مستوردة، وزيادة على ذلك تخدمها جحافل من ملايين العمالة الأجنبية، ماذا ترجو منها ولها؟ زمن الرفاهة الذي تعيشه الأكثرية منا لن يدوم طويلا، وحينها سيتساوى الغني والفقير في الفاقة.
ورب سائل يقول، ما المطلوب من الشعوب وماذا عليها أن تعمل لتتفادى وقوعها لاحقا، لا قدر الله، تحت براثن أزمات اقتصادية لا فكاك منها؟ والجواب الصريح، هو أن مسؤولية اتخاذ الاحتياطات من أجل حياة أفضل تقع على المسؤولين وعلى أفراد المجتمع سواء. فالتخطيط العام والتوجيه وإدارة أمور الاقتصاد هي من صلب واجبات الوزارات المعنية في الدولة. ولكن هذا لا يعفي المواطن من مسؤولية لا تقل أهمية، وهي الحرص والعمل على المشاركة في تنمية الاقتصاد الوطني. فلا بد من تفعيل دور القطاع الخاص في التنمية، والقطاع الخاص هو المواطن نفسه. فعندما نستقدم عمالة أجنبية على كفالتنا ونسهل لها المجال من أجل أن تبيع وتشتري أو تعمل لحسابها الخاص مقابل أتاوة يدفعونها لنا آخر الشهر، فهذا تدمير للاقتصاد المحلي. لأن المقيم سوف يرسل مدخراته إلى بلاده، وهو نوع من إنهاك الاقتصاد. وفي الوقت نفسه، فالوافد يعيش في بلادنا على كثير من مساعدات الدولة المقصودة للمواطن، من فعل المواطن.
وللمواطن الواعي دور كبير في الحد من الإسراف في أمور الحياة، وعدم تبذير المال الذي نحصل عليه من مورد ناضب. وليس سرا أن الملايين من العمالة الأجنبية هي التي تقوم اليوم بجميع الأعمال الإنشائية والحرفية والخدمية، والمستقدم هو المواطن. بينما المنطق يحتم علينا إشراك المواطن في هذه الأعمال، مهما كلفنا ذلك من الأموال ومن المجهود في التعليم والتدريب والتأهيل. فهذا واجب وطني. الذي حاصل الآن هو توجيه أبنائنا نحو الأعمال الناعمة التي لا تعطي قيمة مضافة إلى الاقتصاد الوطني. فمعظمها وظائف كتابية وممارسات تخدر البدن وتقضي على الطموح.
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه في وقتنا الحاضر واقترب البترول من النضوب وتضاعف عدد السكان كل عقدين على أرض صحراوية، فلا مهرب ولا مناص من مواجهة صعوبات مخيفة، حمانا الله وإياكم.
ومن يريد أن يسمي ذلك تشاؤما، فليتفضل بشرح وجهة نظره ويعطينا الضمان بأن مستقبل هذه البلاد التي تعتمد ميزانيتها على دخل البترول بما يقارب 100 في المائة. نحن في حاجة إلى التفاؤل، ولكنه التفاؤل المثمر وليس المبني على وهم أن النعمة التي نحن فيها لن تزول. وما علينا إلا مقارنة حياة شعوبنا الخليجية مع أقرب دولة من حولنا. شاهدوا من الذي يعمل وينتج ويكد ويعرق في تلك البلاد ومن الذي يؤدي الأعمال المنتجة في بلادنا؟ هل نحن من جنس آخر؟ نعم، وهبنا الله ثروة بترولية كبيرة، ويسر أمورنا لاستخراجها، ولكنه لم يأمرنا بالإسراف في إنتاجها ولا بالاعتماد عليها على حساب مستقبل مجهول. فلنتق الله في أنفسنا وفي أجيالنا ونعتبر من أمم سبقتنا وكادوا يهلكون عندما اعتمدوا لفترة ما على مورد ناضب، ثم استقاموا قبل فوات الأوان. وهذا ما ندعو إليه، ليس تشاؤما، ولكن نصحا قبل أن يفوت الفوت.