لماذا تخسر الثورات العربية؟

الثورات العربية ثورات مبررة بما يحدث في الداخل من فساد مستشر وقضايا سياسية واقتصادية واجتماعية أيضا. المشكلة ليست هنا بالتأكيد، فلطالما بطبيعة الحال رغبت الشعوب في حكومات تحترمها وتحترم المحاسبة والمراقبة المستمرة، وبالتالي بدول مستقرة مزدهرة تنمو باطراد، أسوة بما يحدث في العالم. الهوة تكبر بين دول الشرق الأوسط ودول العالم المتقدم بشكل مخيف. لكن المشكلة هي في أن الثورات تحدث هكذا دون رؤية ولا فكر ثوري حديث. أقرب مثال أخير لذلك هي حركة الشباب اللبناني التي ليست سوى مثيلة لكل حركات الثورات التي حدثت في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة. هذه هي المشكلة المستمرة لدى الشعوب العربية التي تخرج إلى الشارع ولا وقود لديها سوى الغضب والاحتجاج لا غير، لا مشروع ولا رؤية حقيقية تستند إليهما.
وقد يحدث أن يتطلع البعض ويقارن بينها وبين الثورات الأوروبية -لاسيما الفرنسية الملهمة منها التي شكلت تحولا، وأثرت في المجتمعات الأوروبية بسبب سياسة نابليون التوسعية غالبا-، وذلك على أمل أن يستقر الأمر بالثورات العربية بعد عقود إلى دول حديثة متقدمة ناضجة كما حدث في أوروبا، إلا أن الاختلافات عميقة. كان لدى الثورة الفرنسية مثلا مفكرين، فقد عرف القرن 18 في فرنسا قيام حركة فكرية سميت فلسفة الأنوار، رفضت اللامساواة وروجت لأفكار جديدة ناقدة للنظام. من زعماء هذه الحركة جان جاك روسو الذي ركز على الحرية والمساواة، وشارل مونتسكيو الذي طالب بفصل السلطات السياسية والدينية، وفرانسوا فولتير الذي انتقد التفاوت الطبقي. وقد ساهمت آراؤهم في انتشار الوعي السياسي والتمهيد للثورة الفرنسية. وقد كان لدى الثورة الفرنسية ثلاثة أسباب شأنها شأن الثورات الأوروبية والروسية أيضا مع اختلاف التفاصيل. الأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية.
المراحل الثلاث للثورة الفرنسية تميزت الأولى فيها بإصدار بيان حقوق الإنسان ووضع أول دستور لملكية دستورية. والمرحلة الثانية تصاعد فيها التيار الثوري وأعدم الملك وأقيم نظام جمهوري صارم. أما الثالثة فقد تراجع فيها التيار الثوري وعادت البرجوازية المعتدلة وسيطرت على الحكم بدستور جديد متحالفة مع الجيش. وشجعت الضابط نابليون بونابرت للقيام بانقلاب عسكري وضع حدا للثورة وأقام نظاما ديكتاتوريا توسعيا. والثورة الروسية كذلك، تلك التي أشعلت حماسة العامة والمفكرين، حتى تبدت وحشية ستالين وووجه احتكار السلطة السياسية ومن ثم عودة الرأسمالية كمسيطر جديد. إنها تغير معادلات قوى من زمن إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى، يشابه ذلك تماما ما حدث في الثورات المصرية في تاريخها أيضا.
إذن فقبل أن يحلم الثوار العرب بتغيير ما حولهم يجب أن يفهموا ما حولهم جيدا. فكر الثورة الأوروبية، ذلك الوقت، وإن كان يتشابه في تكرار الأحداث، إلا أنه كان يترافق وعوامل سياسية عالمية مختلفة تماما. والفكر الآن ليس الدينمو الحقيقي ولم يكن رئيسا على أية حال في القرون السابقة. بل الأمر بسبب طبيعة المتغيرات من ظروف استبداد إلى استبداد آخر بحسب الزمن وأدواته وسياساته الجديدة. صحيح أن الدماء سالت في ثلاثة عقود من الزمن بمئات الآلاف من القتلى على الهوية، ربما أكثر من المنطقة العربية حتى الآن، قبل أن تستقر وتتقدم تلك الدول. لكن، والأهم الآن، القوى العالمية وأفكارها وسياساتها وأدواتها هي التي تقود أي تغيير أو تغير مساراته. قد يرتفع سقف الطموحات التي تقول إن الثورات تصنع قوالب التغيير المطلوب وتأمل حتمية التقدم المفترضة. لكن الشرق الأوسط ليس سوى حلبة صراع وقوى ومصالح متعددة. الوضع أكثر تعقيدا مما قد نتصور. هل فكر الثورة متجدد أم ثابت؟ كلا الجوابين صحيح، وإن تكرر التاريخ بأحداثه ومفارقاته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي