رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


الحوادث المميتة.. والفساد الحي

معظم الحلول التي تخرج لنا بعد الحوادث والكوارث الشنيعة والمفاجئة تكون قوية وجذرية وصارمة، وهذا في حقيقة الأمر ما ينتظره الجميع. ولكن من أعظم التحديات استدامة هذه الحلول وتعظيم آثارها لتشمل الحاضر والمستقبل في الوقت نفسه. مهما بلغت صرامة الحل سيغدو مثل المشكلة التي خرج لها، مجرد حدث مدوٍ سرعان ما يخبو - في معظم الحالات - مع مرور الأيام.
من النادر أن تكون مثل هذه الحلول شاملة أو دائمة وكفيلة بإنهاء المشكلة من جذورها. وهذا بكل بساطة لأن هذه الحلول تعالج إشكالات منفردة ظهرت في صورة متطرفة وتأثرت بها فئة محدودة في فترة معينة. على الرغم من أن هذه الأحداث تحصل على انتباه واسع وانتشار كبير وتأثير منقطع النظير في الرأي العام، وربما تصنع مزيجا جديدا من الآراء والتوجهات، إلا أنها لا تشكل إلا القمة الظاهرة من الجبل الجليدي. قد تكون حوادث مميتة يتفق الجميع على وجوب بذل الغالي والنفيس لتفاديها والحرص على عدم وقوعها في المستقبل، لكننا نفتقد – باستثناء بعض الحالات – إلى ردات الفعل الملائمة والكافية لحل المسببات الرئيسة وتفاديها بقدر جديد من التأكد والمصداقية.
دائما ما تثير الحوادث السخط، وتسمح لغير المتخصصين بالتدخل في مواضيع لا يعرفون كثيرا عنها، وتضخم الحقائق التي لم يعتد الآخرون على سماعها. تنقل مثل هذه الأحداث التركيز إلى جانب واحد من الحقيقة، جانب قد لا يشكل إلا جزءا بسيطا منها، سرعان ما يتسبب النظر إليه باستفراد في تشويه بقية عناصر الحقيقة التي تكون حينها في وضع الاختفاء.
لمثل هذه الأسباب أصبحت الأساليب الإدارية الحديثة تعتمد على معايير الجودة الكلية وقياس رضا المستفيد – حتى في الخدمات العامة - والحصول على تقييمات عادلة لهذه المعايير بصفة دورية مستمرة، والأهم التوقيت الجيد لتطبيق هذه المعايير. تُبنى نماذج الرقابة الحديثة على أسلوب التفادي والاحتراز وليس محاولات المعالجة اللاحقة للمشكلات القديمة والوضعيات المتدهورة، وكان هذا سببا رئيسا في ثورة مفهوم المساءلة، الذي أصبح يعتمد على مجموعة كبيرة من الأدوات ابتداء بالأهداف والهويات الموثقة والمعلنة ومؤشرات الأداء والتقارير الدورية والفحوصات المستقلة. من يبتعد عن مثل هذه الأمور سيصبح أقرب من غيره للكوارث والمفاجآت، وعندما تحصل في محيطه سيضطر إلى أخذ قرارات كبرى مؤثرة تحرك المشهد من جديد، لعل وعسى أن يستقر على وضعية متوازنة أفضل من – أو ربما مثل – تلك الأخيرة التي كان مستقرا عليها!
الحوادث المميتة تمثل نهاية القصة، ولا أعني طبعا نهاية الحياة، فالأمل سيظل دوما قائما ومستمرا. لكنها نهاية قصة الإصلاح والتصحيح التي لا تخلو من التنظير والاستعراض، الحادث المميت هو شهادة صادقة وواقعية على الفشل المتكرر الذريع. يقال إن كل حادثة مميتة تكون قد تكررت قبل ذلك آلاف المرات، ولكن لسبب ما ينجو الضحايا – وغالبا لا يلاحظ أحد الحادثة - ولكن عندما يستمر التجاهل تتكرر الحادثة ولا ينجو أحد! كل التحسينات والتطورات التي لا تمنحنا امتياز تفادي المصيبة قبل وقوعها هي مجرد خدع، يقوم بتنفيذها مخادعون أو مخدوعون، لا يعلمون عواقب ما يقومون به.
يشكل الفساد الصريح مع عناصر مثل: الإهمال السلوكي الجسيم وضعف آليات الاحتساب وتردي نماذج الحوكمة وتدهور القيم الأخلاقية وغياب الرقابة المستمرة مزيجا من العناصر التي تصنع أشرس بيئات الفساد الحي. وعندما تعمل مثل هذه المكونات معا يدخلها العطب بشكل لا يقبل الإصلاح، وتبدأ في احتضان البيئات التي تخرج أشكالا وأنواعا عدة من الحوادث المميتة – التي تشكل قمة الجبل الجليدي - سواء كانت سقوطا في فتحات للصرف الصحي أم غرقا في السيول أو سقوطا للرافعات. ولا مخرج من هذه المعضلة إلا بالحلول المستدامة، التي تبدأ بدورة كاملة من المؤثرات التشريعية والإجرائية والاجتماعية والثقافية.
لا بد أن تكون الحلول جذرية ثورية شاملة؛ ألا تتسم بالبيروقراطية وأن تصنع في قلوب المجرمين كل أشكال الفزع. وهذا يحدث عندما يكون التفكيك ومن ثم إعادة التركيب أسلوبا للمعالجة، وأن تكون دائرة المراقبة مركزية متناسقة، تودع كل ما تحصل عليه من معلومات في قاعدة بيانات حية وذكية. التفكيك ثم إعادة التركيب يمنحنا فرصة الفهم الأفضل للعلاقات والترابطات التي تعيش عليها بيئة الفساد. وبالطبع، يعمل الإصلاح الذي يعتمد على القياس الدقيق وجمع المعلومات من مصادرها على تفنيد شامل وموضوعي لإطالة الأثر وتعزيزه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي