المواجهة الفكرية للمشروع الفارسي
وضع المخططون الاستراتيجيون عناصر جديدة في عملية التخطيط الاستراتيجي باعتباره منهجا تخطيطيا يتجاوز مستوى العمل بصيغة ردود الفعل إلى التخطيط من أجل التأثير الفاعل في البيئة أيا كانت من جهة الأفكار السائدة وهياكلها، ومن أهم تلك العناصر فهم التخطيط كأداة لتغيير استراتيجي شامل للأوضاع والموارد والقدرات، والانتقال من التنبؤ إلى الاستكشاف، ومن حشد الموارد إلى بناء القدرات، ومن السعي من أجل البقاء والمحافظة على الوضع الراهن إلى بناء الاستراتيجيات التي تؤدي إلى تكوين أو خلق الميزة التنافسية الاستراتيجية المؤكدة.
إذا وضعنا ذلك في أذهاننا ثم انتقلنا لحقيقة أخرى وهي أن التخطيط الاستراتيجي ينطلق من عمليات تفكيرية للإتيان بأفكار ابتكارية وإبداعية جديدة ومتميزة تحقق نهج المفاجأة غير المتوقعة من الأطراف المنافسة من منطلقات فكرية تستند لتحليل استراتيجي عميق من قبل خبرات تمتع بقدرات ومهارات تحليلية بعين الدهاء والمكر والحيلة وتوقع غير المألوف من الآخر لبناء صورة واضحة متكاملة مترابطة الأجزاء للحالة أو القضية أو المشكلة، ولمعرفة نقاط قوة الآخر ونقاط ضعفه ومفاصله الهشة. وإذا علمنا أن التفكير الاستراتيجي يوظف الحيل الاستراتيجية القائمة على الدهاء والمكر للوصول لحالة من الخداع لتحقيق عناصر التضليل والمفاجأة والمباغتة في برامجه ومشاريعه وآلياته بشكل عام ومرحلي لتحقيق الأهداف المحققة للرؤية والرسالة في إطار المنافسة الشديدة، أقول إذا علمنا كل ذلك لعلمنا أننا أمام مواجهات فكرية في أي معركة تنافسية قبل أن نكون أمام مواجهات عملية على أرض الواقع.
المشروع الفارسي ـــ ولا أقول الإيراني لأن إيران تتكون من عدة قوميات معظمها مضطهد في بلاده ـــ هو مشروع استراتيجي للهيمنة على المنطقة من خلال فكرة استراتيجية تقوم على الدهاء والحيلة باستغلال الخلافات المذهبية الدينية والمشكلات التقليدية التي تواجهها الأقليات التي تتواطن مع الأغلبيات في دول العالم العربي، وكلنا يعلم أن الأغلبية السنية هي السائدة في معظم إن لم يكن دول العالم العربي.
محور خطة المشروع الفارسي للهيمنة على منطقة الشرق الأوسط والعالمين الإسلامي والعربي يقوم على فكرة دينية فيها من الدهاء الاستراتيجي الشيء الكثير تؤدي في محصلتها إلى الهيمنة على عقول أتباع المذهب الشيعي بجميع أطيافه وتوظيفها لمصلحة المشروع الفارسي إذ تقتضي الفكرة، انطلاقا من إيمان أتباع المذهب الشيعي بالإمامية، وجود "الولي الفقيه" الذي يمثل "الإمام الغائب" ليقود جميع أتباع المذهب الشيعي خلال مدة غياب "الإمام الغائب" وهو الإمام محمد العسكري الذي اختفى ليظهر في آخر الزمان كما تنص عقيدة الشيعة الاثني عشرية لإزالة الجهل والظلم، والجور، ونشر أعلام العدل، وإعلاء كلمة الحق، وإظهار الدين كله لينجي العالم من ذل العبودية لغير الله، ويلغي الأخلاق والعادات الذميمة، ويبطل القوانين الكافرة التي سنتها الأهواء، ويقطع أواصر التعصبات القومية والعنصرية، ويمحو أسباب العداء والبغضاء.
انقسم الشيعة في إيران وفي العالم العربي حيال الموقف من فكرة "الولي الفقيه" الاستراتيجية التي تعيد تشكيل موقف أتباع المذهب الشيعي من القتال إلا بخروج الإمام المهدي، وتمت مواجهته من قبل أعلام الشيعة في بعض الدول العربية لعلمهم أن مشروع هيمنة فارسية على دولهم من بوابة ولاية الفقيه، إلا أن قادة الثورة الإيرانية مرروا الفكرة والبرامج التنفيذية المنطلقة منها بالقوة تارة، وبالإقناع تارة، وبالمزايا تارة أخرى وهكذا.
هذه الفكرة الخداعة التي تمحور حولها المشروع الفارسي للهيمنة على المنطقة بتغيير ولاءات المواطنين العرب لمصلحة الولي الفقيه الفارسي وممثليه من مرجعيات ووكلاء على حساب الولاء لأوطانهم، ومن ثم تم تكوين أحزاب معلنة وأخرى سرية ودعمها بالمال والسلاح والمواقف السياسية أحيت الطائفية بشكل غير مسبوق، وأدت لتكوين مجموعات قتالية إرهابية وصلت لأكثر من 52 مجموعة، كما أدت في الوقت ذاته لتعزيز مكانة التنظيمات السنية المتطرفة "القاعدة وداعش" اللتين تدعمهما إيران في الوقت ذاته لإشعال الفتنة وتدمير البلاد العربية. كثير من الأدلة تشير لذلك ومنها أن القاعدة وداعش لم تتعرض أي منهما لإيران بأي عمل إرهابي، بينما استهدفت البلدان العربية بهذه الأعمال بشكل كبير. إذن مكمن خطورة الفكرة الاستراتيجية للهيمنة على المنطقة يأتي من كونها تهيمن على عقول مواطني الدول العربية من أتباع المذهب الشيعي الذين يؤمنون بهذه الفكرة الإيمانية ذلك أن ولاءهم سيكون عابرا للحدود ليكون للولي الفقيه ووكلائه والمرجعيات التي يعتمدها في جميع الدول ليكونوا جاهزين لاستقبال كل التعاليم والتعليمات والتعاون والتبرع والدعم السخي والمشاركة في المظاهرات والقتال والانضمام للمجموعات الإرهابية التي ينشئها "الولي الفقيه" لتحقيق الأجندة الفارسية تحت ذريعة حماية الأقليات الشيعية وتمكينها في الأرض. لاشك أن تصريحات حسن نصر الله تثبت ذلك بكل جلاء ووضوح.
لا يفل الفكر إلا الفكر، وتغيير الفكر يؤدي لتغيير الموقف والسلوك, ولا شك أن محاربة وكشف خبث ودهاء فكرة "الولي الفقيه" سيعيد صناعة الواقع على الأرض ليفشل المشروع الفارسي خصوصا إذا تم إظهار آثارها السلبية في الشعب الإيراني والشعوب العربية، وإبراز رفض الكثير من أبناء الشيعة العرب للمشروع الفارسي بعد أن اكتشفوا زيفه وآثاره السلبية.
أول الغيث قطرة، حيث نشرت صحيفة "سبق" خبرا بشأن حملة تنطلق من العاصمة الرياض تستضيف نخبة من العلماء والمهتمين بالشأن الإيراني من السعودية والعالم الإسلامي، لكشف حقيقة المشروع الصفوي وتهديده لأمن الحرمين والخليج والمسلمين عموما، وهو لا شك أمر مبشر ببدء المواجهة الفكرية على أسس علمية سليمة.
أتطلع إلى أن تتواصل الجهود الفكرية لبناء خطة استراتيجية ذكية تعيد تشكيل الوعي العام حيال فكرة "الولي الفقيه" ومخاطرها على الولاء والانتماء الوطني وعلى الوحدة الوطنية وعلى الاستقرار والتنمية لنقف جميعا سدا منيعا في وجه المشروع الفارسي لتفتيت المنطقة والهيمنة عليها من بوابة الولي الفقيه.