ابحث عن الأسطورة ولو في الصين
كانت كل الأعين موجهة صوب الصين قبل أن تغير وجهتها صوب البحر الأبيض المتوسط وجنوب أوروبا لتستقر على مأساة اللاجئين.
فجأة وفي مستهل هذا الشهر غادر الإعلام الغربي التحدث عن "كارثة" الأسواق المالية وأسواق الأسهم في الصين، وأخذ يركز على كارثة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط وبشكل مكثف لم يفارق شاشات التلفزة وواجهات الجرائد حتى يومنا هذا.
هناك قيم أو معايير تحدد في الغالب أي حدث يستحق التغطية من قبل وسائل الإعلام. أخبار المال وأسواق الأسهم ذات قيمة خبرية. وإن كانت ذات علاقة بدولة عملاقة مثل الصين، اقتصادها يعد الثاني بعد الولايات المتحدة من حيث الحجم والقيمة في العالم، فإن تغطيتها تصبح أمرا لا بد منه.
اليوم الغرب منهمك في مسألة اللاجئين وترك مشكلات الصين الاقتصادية وراء ظهره. وحسنا فعل. والسبب، في رأيي المتواضع، الذي يتفق معه بعض المختصين، أننا لا نعرف إلا النذر اليسير عن الصين رغم انفتاحها الكبير على الاقتصاد والتجارة في العالم.
وكما أن اليوم كل يدلي بدلوه حول اللاجئين الذين يتقاطرون بعشرات الآلاف إلى أوروبا، كذلك كان شأن "الأزمة" في الصين، حيث طلع علينا المحللون ومعهم بعض الساسة وكتاب العواميد وهم يقرعون جرس الإنذار من أن الصين واقتصادها مقبلان على أزمة وكارثة حقيقية.
وكانت هناك مواقف وتصريحات ساذجة تثير السخرية من الصين. بعض مرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة دعا إلى فك الارتباط مع الصين وفورا كي لا تأخذهم معها إلى الهاوية التي تسقط فيها.
يبدو أن الكثير مما نملكه عن الصين لا يتجاوز الأسطورة وأن معلوماتنا عنها واقتصادها وصناعتها وشعبها لا تزال بعيدة عن الواقع. ليس بوسع الولايات المتحدة ولا أوروبا فك الارتباط مع الصين. الصين صارت جزءا أساسيا وحيويا من الاقتصاد العالمي.
الصين مركز لسلسلة التوريد والإمداد في العالم، وهناك عدد لا يحصى من الشركات الغربية لا يمكن لها الاستمرار في حال انهيار هذا الرابط. ونسي الكثيرون أن أغلب الديون المترتبة على الحكومة الأمريكية (السندات) ـــ وهي مبالغ فلكية ـــ هي لدى الصين. وأن الصين لها أكبر احتياطي في العالم من العملة الصعبة وبالدولار عدا احتياطي الذهب.
ليس هذا فقط، بل إن استهلاك الصين من المواد الخام بأنواعها المختلفة يمثل حصة الأسد من الطلب العالمي. أسعار أي مادة من المواد الخام اليوم تعتمد وبشكل كبير على دورة أو عجلة الاقتصاد في الصين.
كان حقا موقفا مثيرا للضحك عندما طالب البعض باتخاذ خطوات عاجلة لفك الارتباط الاقتصادي مع الصين. ليس بمقدور حتى الولايات المتحدة اتخاذ هذه الخطوة. الهاوية التي تتصور للبعض أن الصين متجهة صوبها من السعة بمكان. وإن سقطت فيها الصين ـــ وهذا أمر لا أظن سيحدث ـــ فإنها ستجر معها الولايات المتحدة. عرى الروابط الاقتصادية بين الدولتين أقوى وأمتن مما يمكن تخيله.
والأسطورة أو الخرافة الأخرى التي ظل الغرب وإعلامه ومحللوه وبعض ساسته متشبثين بها هي تصورهم أو تخيلهم أن الأسواق المالية في الصين مشابهة تماما للأسواق المالية في الغرب. هنا أيضا ظهر قصور في استيعاب وفهم كيف تدور وكيف تدار الأسواق وعجلة المال والاقتصاد في الصين.
تصور البعض أن عميلة تصفية الأسهم أو البيع المكثف لها خشية انخفاضها أكثر ممكن مقارنتها بالأزمة المالية التي عصفت بالأسواق المالية في الغرب في عام 2008. وظن البعض أن المصارف في الصين وسعر الصرف أيضا ينطبق عليه ما ينطبق على ما لدى الغرب.
قد يكون الوضع سيئا وغير منظم في الصين كما هو في الغرب. ولكن نسي الكثيرون أن الخسارة في أسواق الأوراق المالية لم تؤثر في الشركات المسجلة في البورصة ولا في المصارف لأن هذه تعود ملكيتها أو حصة الأسد فيها للدولة.
الخسارة لحقت بالمواطنين الصينيين الذين في طبيعتهم ميالون إلى الادخار. وهذا الميل يعززه غياب نظام تقاعدي بإمكان الناس أن تتكئ عليه، وكذلك عدم توافر خدمات عامة ومستوى عال من الرعاية كالتي في الغرب.
كل هذا يدفع بالمواطن الصيني صوب الادخار. وكانت البورصة الملجأ الذي استظل به الصينيون.
أما الشركات والمصارف والمؤسسات فبقيت في منأى عن الهزة التي ضربت الأسواق، ولم تحتج إلى دعم مالي حكومي هائل كي لا تعلن إفلاسها، تماما عكس ما حدث في الغرب ولا سيما للمصارف الكبيرة التي لولا الدعم الهائل من الدولة لأفلست.
سنظل نطلب ليس العلم بل الحكمة من الصين وربما إلى زمن طويل من الآن.