لماذا وقف الألمان مع السوريين؟
في الوقت الذي يستقبل فيه الأوروبيون مئات الآلاف من السوريين الفارين بالورود وأطباق الفواكه الموسمية والغذاء والمساكن واللافتات الترحيبية، يصطفون على الشوارع وأمام مداخل القطارات والمطارات، في حملات يقودها فعليا المجتمع المدني قبل السياسي، تظهر صور المسلمين في المنطقة يتعاركون بالذبح والقتل والحرق والصراع الطائفي، بأقصى صور السادية العفنة. يراها كثيرون "دراما" على المستوى السياسي، إذ كيف تستقبل أوروبا السوريين في حين لا يستقبلهم العرب. بالطبع هذا لا يعني جحود ما قدمته بعض الدول العربية والخليجية للسوريين طوال السنوات الماضية. إلا أنني أراها دراما على المستوى الفكري لنا في تقييمنا للإسلام نفسه، بصفته أيديولوجيا أكثر من كونه دينا. قمة الإحراج الأخلاقي أننا نبحث في الإنسان عن مسلم قبل أن نصنع فيه الإنسان. أما على المستوى السياسي فالأسباب السياسية مختلفة، منها وضع الدول نفسها ونظامها التأسيسي والاجتماعي والموقف السياسي ربما. إلا أن السوريين هم البيادق للأسف وسط هذا الضياع. سورية التي نصف شعبها بين مقتول ومهجر ولاجئ بعد خمس سنوات من الصراع. وسورية المبادة والمبعثرة والمسحوقة بين هذا الركام، يحتار شعبها بين نظام تلطخت يديه بدمائهم وبين "داعش" والفصائل الإرهابية.. بين خيارات الموت والموت.
على المستوى السياسي، لا تلعب الإنسانية وحدها الدور في استقبال الأوروبيين للسوريين. فهناك المصالح. وليس مصادفة أن تروج الإدارة السياسية الألمانية لدعاية الهجرة كما لو أنها حملة علاقات عامة ضخمة. فمنذ سنوات، وألمانيا تصرح بمعاناتها والنقص الحاد في الكفاءات والأيدي العاملة بسبب تراجع عدد السكان، وسعت لتفتح الباب أمام المهاجرين لسد هذه الثغرة. الأرقام تقول إن أعداد المواطنين في سن العمل الرسمي سيتراجع بصورة كبيرة حتى عام 2050، وستفقد ألمانيا 11 مليون فرصة عمل في حالة عدم وفود أيدي عاملة مهاجرة جديدة إلى البلد. وسينخفض عدد العاملين من 45 مليونا حاليا إلى 29 مليون عامل فقط بحلول 2050، وفقا لدراسة "بيرتيلسمان" الألمانية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى آيسلندا. لكن قد لا يفي بعض السوريين والعراقيين اللاجئين وغيرهم بكل الشروط بطبيعة الحال. لكن هناك مكاسب حتما. وحين وصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مشكلة اللاجئين في أوروبا بأنها "تحد أكبر من الأزمة اليونانية" لم يكن عشوائيا. بل إن سعي ميركل لإقناع الاتحاد الأوروبي في العمل معا على تقسيم الحصة من اللاجئين يذكرنا بالتهديد اليوناني الغاضب لألمانيا أخيرا، بأنها ستعمل على إغراق الأخيرة باللاجئين ومن بينهم "الدواعش".
وإن كان هناك بعض احتجاجات من اليمين المتطرف المعارض، إلا أن الألمان على المستوى الشعبي عبروا بشكل عظيم عن قيمة المجتمع العلماني بقوانينه المدنية التي تفصل بين الدين والسياسة. يقول رئيس مؤتمر الأساقفة الألماني الكاثوليكي راينهارد مارك "إن كل إنسان يهرب إلينا أملا في تلقي المساعدة، يستحق أن نستقبله بالتضامن والاحترام غير المشروط لكرامته وكذلك بالإيثار"، وأن يناشد رئيس مجلس الكنيسة الإنجيلية، الأسقف هاينريش بدفورد ـــ شتروم، المواطنين بمنح الدعم الذي يأملون هم أنفسهم في تلقيه. أو حتى حين قامت رموز ألمانيا السياسية والاقتصادية والفنية والسينمائية والغنائية والرياضية والثقافية ورؤساء الأحزاب والنقابات، بل وكبريات الصحف الألمانية بالتعبئة لذلك معا في احتفالية إنسانية مؤثرة، حاكتها في ذلك آيسلندا عندما طلب الشعب من حكومته استقبال السوريين في بيوتهم حتى يتسنى للحكومة استقبال عدد أكبر. لكن ألمانيا التي عاشت حروب تطهير دينية تاريخية وحشية بين الكاثوليك والبروتستانت، وهي حرب الـ 30 عاما التي خسرت فيها نصف سكانها، ها هي ألمانيا دولة علمانية حديثة، تعلمت الدروس القاسية جيدا.