رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أوروبا «تغرق» بالمهاجرين ولا قارب نجاة في الأفق

قد تكون شعوب الشرق الأوسط وحكوماتها وإعلامها منشغلة بالحروب والصراعات الدائرة في بلدانها. الاقتتال في بعض البلدان مرير ودموي. في بعضها الدم يجري كالأنهار والبعض الآخر تحول إلى ركام وصار من الصعب تقديم إحصاءات دقيقة عن الضحايا والمهجرين فيه.
لا يمر يوم إلا وهناك أخبار غير سارة كثيرة ينقلها الإعلام. بيد أن اللافت للنظر أن العنف صار المادة الرئيسة للإعلام الشرق أوسطي. القنوات الإخبارية المفروض فيها أن تنقل أحداثا عن شتى مناحي وروافد الحياة.
ولكن ما نقرأه ونسمعه من أخبار جله عنف مفرط وقتل وتهجير مستديم في شتى أرجاء هذه البقعة المنكوبة.
والمختصون بتحليل الخطاب الإعلامي مندهشون لغلبة سردية ونمطية العنف والقتل والتهجير والإقصاء المذهبي والطائفي في الخبر الإعلامي باللغة العربية. وقد أظهرت إحدى الدراسات الأكاديمية أن الأفعال والمصادر والأسماء والتعابير والتوصيفات التي تدل على العنف باللغة والفرز المذهبي والطائفي والشخصنة والمباشرة من أكثر الأنماط اللغوية الشائعة في الخبر الإعلامي بالعربية.
وتأثير سردية العنف في الخطاب لها تبعات خطيرة جدا على التركيبة الثقافية والإنسانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع. السردية السائدة في الخطاب تعكس بنية المجتمع والأطر التي يتحرك ضمن نطاقها. السردية هي التي تقود المجتمع وتكوّن وتشكل ميوله.
فلا عجب أن نرى شعوب وحكومات هذه المنطقة غير قادرة على الحوار واللقاء. ولا عجب أن نرى أنها فشلت وتفشل وستفشل في إطفاء نيران أي من الحرائق المدمرة التي بدأت تأكل الأخضر واليابس في بعض البلدان.
سردية العنف، وسردية الفرز المذهبي والطائفي، وسردية الشخصنة والمباشرة تعكس قلوب الناس وعقولهم وتمنع من التوافق واللقاء في منتصف الطريق لإطفاء الحرائق المستعرة.
قد نحتاج في القادم من الأيام إلى أن نكتب بإسهاب عن بعض التعابير الاختصاصية التي أوردناها في هذا المقال لأهميتها في فهم أنفسنا وواقعنا الاجتماعي. من الصعوبة بمكان استيعاب وإدراك ليس فقط من نحن وما هو واقعنا بل كنه الحياة برمتها دون التعمق في السردية الخطابية التي نتبناها والتي تسود الخطاب بصورة عامة.
إن كانت هذه المقدمة الموجزة أفادت القارئ اللبيب في قراءة الواقع الاجتماعي الشرق أوسطي من خلال السردية السائدة في الأخبار التي تنقلها وسائل الإعلام فيه، فبإمكاننا تطبيقها في مناطق أخرى للاستدلال على الأطر الخطابية السائدة فيها والسردية التي تحاول من خلالها التعبير عن واقعها.
ليس فقط الشرق الأوسط وشعوبه ودوله وحكوماته هم ضحية سردية العنف والفرز المذهبي والشخصنة والمباشرة التي تسود خطابه الإعلامي.
أوروبا ذاتها هي اليوم ضحية الأطر والأنماط الخطابية وسردية فرز الآخر المختلف عنها وتوصيفه من خلالها كأنه بعبع وعدو يتحين الفرصة للانقضاض على حضارتها ورفاهيتها وطريقة حياتها التي تراها أسمى وأعلى شأنا ومرتبة من طريقة الحياة في الشرق الأوسط.
منذ نحو عقدين من الزمن، والخطاب الإعلامي في الغرب منكب على تكرار أطر وأنماط خطابية شكلت سردية فيها عدائية واضحة ضد الأجانب والمهاجرين. هذه السردية يراها العلماء والمفكرون سببا لإقصاء الأجانب والمهاجرين عمليا وعلى أرض الواقع.
المهاجرون، الذين أخذوا يتقاطرون صوب أوروبا بمئات الآلاف كل شهر، قد يلقون الترحاب في بعض الدول الأوروبية ولكنهم يحشرون في الواقع ضمن أطر اجتماعية تعكس تماما الأطر والأنماط الخطابية التي ترى فيهم خطرا محدقا لا بل وجوديا على المجتمعات التي يتواجدون فيها.

بعض الدول والمجتمعات الأوروبية غلبتها السردية التي ظاهريا تكشف بعدا إنسانيا يتجاوز الطائفة والدين واللون والمذهب والميول بشتى أنواعها، وباطنيا تضمر الحقد والعداء. وهكذا غلقت حدودها وأقامت المتاريس وجيشت الشرطة والجنود المدججين بالسلاح لوقف "الغزو البربري" من قبل المهاجرين الأجانب. والآخر أظهر بجلاء أن سردية اليمين المتطرف رغم إدانتها على الملأ رسميا، هي التي يجب تطبيقها. لم يكن يتصور أحد أن مجتمعا أو دولة أوروبية تأخذ المدنية الحديثة والعلمانية منهجا تفرز المهاجرين على أسس دينية وتأوي أصحاب دين محدد وتطرد الآخرين غير مكترثة لما سيحل بهم.
هناك تطرف في الشرق الأوسط. هذا ما لا نستطيع نكرانه، ولكن هناك تطرف في أوروبا، وهذا أيضا على الإعلام الغربي إماطة اللثام عنه.
أوروبا تغرق لأنها مقبلة على ظلام. والتطرف والفرز والشخصنة ظلام من أي أتى.
يبدو ألا حيلة للأوروبيين في وقف زحف المهاجرين صوب بلدانهم لا سيما القادمين من الشرق الأوسط. مصداقية مركب الرخاء الغربي وعلى الخصوص ادعاءات قبطانه وركابه أن المدنية والقيم الأخلاقية والإنسانية وحقوق الإنسان هي التي تسيره صارت على المحك اليوم. أصحاب المركب، لأنهم يؤمنون في داخلهم أن المهاجرين "قراصنة" و"غزاة" ويتعاملون معهم من هذه المنطلق، صار بعضهم يتصرف بعقلية القراصنة ناسيا كل القيم التي حشوا رؤوسهم ورؤوسنا بها.
بالنسبة إليهم المركب سيغرق لو لم يتم إيقاف زحف "القراصنة". الأمر خطير حقا لأن المركب لا قوارب نجاة له.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي