على من تقع مسؤولية ثقافة المعرفة؟
«ثقافة الإنسان» مسألة مهمة ومتعددة الأبعاد، تتمتع بأثر كبير في توجيه "سلوكه" في مختلف قضايا الحياة. وتشمل هذه الثقافة ثوابت ومتغيرات نشأ عليها الإنسان في مجتمعه أو اكتسبها عبر تجربته الشخصية. وقد طرح عالم الاجتماع "إدوارد تايلور"، في القرن التاسع عشر، تعريفا للثقافة يقول إنها "التكوين المعقد الذي يشمل: المعرفة، والإيمان، والأخلاق، والقانون، والتقاليد، وأي خصائص أخرى وعادات يكتسبها الإنسان".
وهناك تعريف آخر للثقافة يركز على السلوك الاجتماعي لأبناء الشعوب المختلفة، ورد في الموسوعة الأكاديمية الأمريكية. يقول هذا التعريف: "إن الثقافة هي السلوك المكتسب من قبل الأفراد المنتمين إلى مجموعة اجتماعية". ثم هناك تعريفات أخرى للثقافة، بينها تعريف يهتم بسلوك منسوبي المؤسسات التي تريد أن يكون لها شخصية سلوكية متميزة. يقول هذا التعريف "إن ثقافة المؤسسة هي القيم التي تتبناها وأسلوب العمل الذي تسلكه".
وقد طرحنا في مقالات سابقة موضوعات ترتبط بالثقافة في إطار مجالات محددة تغطي جوانب مختلفة من معناها الشامل. ومن هذه المقالات "ثقافة العادة؛ وثقافة القياس؛ وثقافة الجاهزية". وغاية هذا المقال هي التركيز على الثقافة في الجانب المعرفي، فالتراكم المعرفي في هذا العصر، والسباق المعرفي الذي يشهده، والمتطلبات الناتجة عن ذلك، تجعل من الاهتمام بثقافة المعرفة مسؤولية اجتماعية على الأفراد وعلى المؤسسات. ولعل الأولوية هنا تأتي على الأفراد؛ لأنهم العناصر الحية المحركة، ليس لأنفسهم فقط، بل للمؤسسات، وللمجتمع، وللعالم بأسره.
سننظر إلى "ثقافة المعرفة" على أنها "سلوك الإنسان على ثلاثة محاور رئيسة، في إطار مبادئ الأخلاق والعدل والمساواة". المحور الأول هو محور "تفعيل المعرفة" على المستوى الشخصي وعلى المستوى العام؛ والمحور الثاني هو محور "تفعيل التعارف والتعامل الإيجابي مع الآخرين"؛ أما المحور الثالث فهو محور "توخي الحكمة" الذي تطرقنا إليه في مقال سابق.
يتضمن محور "تفعيل المعرفة" العمل على تفعيل النشاطات المعرفية، على المستوى الشخصي، وعلى مستوى المؤسسات والمجتمع بأسره. ويشمل ذلك "تفعيل نشاطات نشر المعرفة واكتسابها بالتعليم والتدريب والتعلم الذاتي؛ ونشاطات توليد المعرفة بالإبداع والابتكار وتقديم معطيات معرفية تحمل قيمة مفيدة؛ إضافة إلى نشاطات توظيف المعرفة والعمل على الاستفادة منها واستغلال قيمتها". ويتطلب هذا التفعيل "حماسا للمعرفة؛ وعزيمة على تفعيلها؛ وجهدا يبذل في سبيل ذلك".
ولا شك أن "التفكير"، والحالة الذهنية المنفتحة على المعرفة، يمثلان الوسيلة الرئيسة للاستجابة لمتطلبات تفعيل المعرفة في المجتمع. ففي هذه الوسيلة: استيعاب لمضامين المعرفة، وتوليد للأفكار الجديدة والمتجددة، وتعزيز لمسيرة توظيفها والاستفادة منها. وهي مطلوبة من كل فرد، ومطلوبة أيضا من مؤسسات أو "مراكز الفكر Think Tanks" التي تسعى إلى تنسيق أفكار المتميزين في المجالات المختلفة بهدف تفعيل المعرفة في المجتمع وتسخير معطياتها لخدمته. وقد تحدثنا في مقالات سابقة عن "التفكير" وعن "مراكز الفكر" كمسؤوليات اجتماعية ينبغي الاهتمام بها.
وننتقل إلى محور "تفعيل التعارف والتعامل المعرفي الإيجابي مع الآخرين". في هذا الأمر تختلف خصوصيات الشعوب وثقافاتهم التي نشؤوا عليها ونهلوا من تراثها. ويحتاج التواصل بين أصحاب الثقافات المختلفة إلى "وسيط" بين هذه الثقافات، يعمل على تمكين هذا التواصل وإتاحته، مع المحافظة على الخصوصيات من دون تحد أو تغيير.
يشبه مثل هذا الوسيط، في المجال اللغوي، المترجم الذي يجيد لغتين يستطيع من خلالهما تمكين التواصل بين طرفين ينتمي الأول إلى إحداها والثاني إلى الأخرى. كما يشبه أيضا تقنية الإنترنت التي تستطيع العمل مع مختلف أنواع الشبكات، لتمكن من خلال ذلك، جميع مستخدمي هذه الشبكات من الوصول إلى جميع الخدمات، من دون الحاجة إلى أي تغيير فيها.
"المعرفة" هي الوسيط القادر على تمكين أصحاب الثقافات المختلفة من التواصل وتبادل المنافع فيما بينهم، مع المحافظة على خصوصية كل منهم. نجد ذلك في المؤتمرات العلمية الدولية، حيث ينتمي المتحدثون والحاضرون إلى ثقافات مختلفة من ناحية، ويهتمون بقضايا معرفية مشتركة من ناحية أخرى. نجد ذلك أيضا في مختلف النشاطات المعرفية المباشرة والنشاطات المعرفية الافتراضية على الإنترنت. ويشمل ذلك النشاطات المعرفية التي تؤدي إلى تبادل منافع معرفية وتلك التي تشمل تبادل منافع مادية أيضا.
وليس "تفعيل التعارف والتعامل المعرفي الإيجابي مع الآخرين" بجديد على خصوصيتنا الثقافية. فقد علمنا الدين الإسلامي ذلك قبل قرون طويلة. فقد قال الله تعالى في سورة الحجرات "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". فالناس على اختلاف ثقافاتهم مدعوون في هذه الآية الكريمة إلى "التعارف" فيما بينهم، والتعارف بالطبع تبادل للمنافع من دون طمع أو عدوان.
ونصل في مسألة "ثقافة المعرفة" إلى محور "توخي الحكمة"، وهو المحور الذي يفترض أن يدير شؤون الحياة المختلفة، بما في ذلك شؤون "تفعيل المعرفة"، وشؤون "تفعيل التعارف والتعاون" بين أصحاب الثقافات المختلفة. في توخي الحكمة، كما ذكرنا في مقال سابق، توجه نحو "الفضيلة والتفاهم، والمصلحة العامة، حيث الجميع فائزون". وفيها "تفكير وأولويات وحلول تسعى إلى الأفضل". فيها بعد عن شرور السوء واقتراب من صلاح الخير.
ولعلنا نقول: إن "ثقافة المعرفة"، بمحاورها الثلاثة، ليست مسؤولية اجتماعية على الأفراد والمؤسسات، على المستوى المحلي فقط، بل هي كذلك على المستوى الإنساني أيضا. هي تنافس حضاري على الإسهام الإيجابي في المعرفة الإنسانية؛ وهي وسيط توافق بين الثقافات المختلفة؛ وهي من خلال ذلك بيئة للتنمية يستفيد منها الجميع. هي سعي إلى الحكمة، وطموح إلى حلول مثلى لما نواجه أو يمكن أن نواجه من مشاكل.
علينا، في مختلف نشاطاتنا المعرفية، أن نهتم بتفعيل ثقافة المعرفة في حياتنا. ليست هذه الثقافة غريبة عنا، بل هي قريبة منا. ديننا الإسلامي الحنيف: يريد منا التفكر ("لعلهم يتفكرون": سورة النحل)؛ يدعو الناس جميعا شعوبا وقبائل إلى التعارف ("جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا": سورة الحجرات)؛ يعلمنا أن الحكمة تحمل إلينا الخير الكثير ("ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا": سورة البقرة). ثقافة المعرفة خير للجميع، خير لنا، وخير للعالم بأسره.