عودة إلى كلية البترول
هذا تعليق على مقال كتبه زميلنا نجيب عصام يماني في صحيفة "عكاظ" بتاريخ 24 آب (أغسطس) 2015، حول موضوع منبع فكرة إنشاء كلية البترول والمعادن في الظهران قبل أكثر من 50 عاما، وعطفا على مقالي في "الاقتصادية" في الثاني من آب (أغسطس) 2015.
يا أهلا وسهلا بك أخي نجيب، والميدان رحب للحوار البناء. لعلك تدرك أن القصد من إثارة الموضوع هو البحث عن الحقيقة بدليل الشواهد، حيث إن أحد الوزيرين قد توفاه الله من دون أن يترك لنا تسجيلا مثبتا. والباب الآن مفتوح لكل من له رأي يدلي به، أمثال شخصكم الكريم. وقد سمعت، بعد نشر المقال، عدة آراء تخالف ما تفضلت به. وسأورد هنا فقرة من رسالة بعثها إلي صديق، هو اليوم عضو تدريس في إحدى جامعاتنا. ولن أذكر اسمه الآن؛ لأني لم أستطع الاتصال به لأستأذنه. يقول في رسالته: "صاحب الفكرة هو الشيخ عبدالله بن حمود الطريقي، فقد تشرفت بمعرفته عام 1979 عند قدومه من الكويت إلى المملكة برا، وكنت موظفا في الجمارك آنذاك، وسألني عن مستواي العلمي، قلت تخرجت في الثانوية وأنوي الدراسة في أمريكا، قال: ولماذا لا تدرس في جامعة البترول والمعادن؟ ثم ذكر في حديثه أنها فكرته عرضها على الملك فيصل ـــ رحمه الله ـــ ولم يذكر أحدا غيره". ومصدر آخر ممن عاصروا الوزيرين أكد لي هو الآخر أن الطريقي هو صاحب فكرة الكلية و"بترومين"، اللتين قام يماني، وبكل جدارة، بمتابعة تنفيذهما.
ولعله من نافلة القول أن أذكر أنني شخصيا أكن للشيخ يماني ألبسه الله الصحة والعافية كل احترام وتقدير. ومن المعجبين بحنكته وحكمته وثقافته المتميزة وحسن منطقه. ولو لم يترك لنا إلا رعايته ومهارته في إدارته للمفاوضات الشاقة بين الحكومة السعودية وشركات البترول العملاقة التي كانت تملك شركة الزيت العربية الأمريكية، أرامكو، في منتصف السبعينيات، والتي استمرت ما يقارب عشر سنوات لكفى. وكانت النتيجة انتقال كامل ملكية صناعة البترول وحقولها في بلادنا إلى أهل الأرض بطريقة سلسة وبكل هدوء ودونما ضجة إعلامية ولا خلافات علنية. فلم نكن نشعر آنذاك، ونحن جزء من الشركة، أن شيئا ما غير عادي كان يجري من وراء الكواليس. فهذه تحسب لأحمد زكي يماني ـــ الله يحفظه ـــ. وفي المقابل، فإن إنجازات الشيخ الطريقي ـــ رحمه الله ـــ المتميزة لم تكن فقط خلال توليه الوزارة ومشاركته في إنشاء منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك". فمعظم إنجازاته العظيمة كانت سنوات توليه مسؤولية الإشراف الفني والمالي على علاقة الدولة بشركة أرامكو، ولمدة تزيد على عشر سنوات قبيل انضمامه إلى الوزارة وتقلد منصب وزير البترول والثروة المعدنية عام 1960. فقد جابه وحيدا عمالقة شركات البترول العالمية، أربع من أعتى وأقوى الأخوات السبع. واستطاع أن يقف معهم الند للند حتى تحصل قانونيا على جميع استحقاقات المملكة التي كانت تقرها الاتفاقية بين الطرفين، عن طريق المفاوضات ومقارعة الحجة بالحجة. ولم يكن ذلك أمرا سهلا ولا متيسرا. فقد كانت هناك أمور كثيرة من الممكن الالتفاف حولها من دون وجود سوء نية. ولكن الشيخ الطريقي بحنكته وإصراره ووطنيته كسبها لمصلحة الدولة. كما كان يؤكد للشركة من منظور وطني أهمية تدريب وتأهيل المواطنين مهما كلف ذلك. وحرص على استغلال الغاز الذي كان آنذاك يذهب هدرا، ولو جزئيا. هذه الفترة من علاقته مع شركات البترول أوحت إليه أن الحاجة ملحة إلى وجود مواطنين يحملون المؤهلات نفسها التي يحملها القائمون على أعمال شركة أرامكو ومن المنبع نفسه. ففي عام 1959؛ أي قبل الوزارة بسنة، اتصل الطريقي نفسه بجامعة تكساس في الولايات المتحدة، وهي الجامعة التي تخرج فيها عام 1948 بماجستير جيولوجيا، واتفق معهم على إنشاء برنامج خاص للطلبة السعوديين، استمر أكثر من عشر سنوات. وكان من أنجح برامج الابتعاث الذي عرفته السعودية. وترك لوزارة المعارف اختيار الطلبة المتفوقين والعناية بهم حتى تخرجهم في التخصصات العلمية المطلوبة لمختلف متطلبات الصناعة البترولية. وكان يتابع الطلبة بنفسه حتى بعد أن أصبح وزيرا للبترول. فعلى الرغم من قصر مدة خدمته كوزير، قام خلالها بزيارتين للطلبة في الجامعة أثناء زياراته الرسمية إلى أمريكا. وذلك مما يعكس اهتمامه الشديد بمستقبل هذه البلاد وتطورها ـــ رحمه الله ـــ.
هل يستكثر على إنسان بهذا القدر من الوطنية والاندماج الكامل في شؤون الصناعة البترولية والاهتمام الكبير بتأهيل الكفاءات المتميزة والبعثات في ذاك التخصص، أن تكون فكرة إنشاء كلية البترول والمعادن من بنات أفكاره؟ هذا إذا لم يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن غيره قد ثبت تبنيه للفكرة بعد تنحي الطريقي عن الوزارة.
وبصرف النظر عن منبع فكرة إنشاء كلية البترول والمعادن، فقد تم ذلك في وقت كان قد حان فيه وجودها على أرض الواقع. وسواء كانت بداية الفكرة من الشيخ يماني أو الشيخ الطريقي أو الملك فيصل ـــ رحمهم الله ـــ، فلا ينفي ذلك فضل كل واحد منهم في مجاله. وإنما فقط للتاريخ، يهمنا التحقق من مصدرها الأساس. وإذا لم نجد ما يثبت منبعها من دون أي مجال للنفي فليس أمامنا إلا اللجوء إلى القرائن أيها أرجح. وأرجو رجاء حارا ألا يفهم من حديثي ودخولي في هذا الموضوع الشائك أنني أفضل فلانا على فلان، أو أنني أحاول بخس حق أحد لمصلحة آخر. وللتاريخ، فالذي قام بإنشاء المراحل الأولى من الكلية، بحسب علمنا، هو الدكتور صالح أمبه ـــ رحمه الله ـــ، وأصبح مديرا لها عدة سنوات. ونحن عاصرنا البدايات الأولى لتأسيس الكلية. تخرجنا عام 1964 في جامعة تكساس، والتحق بعض الزملاء بـ"أرامكو" وأنا من ضمنهم. فكنا نجالس الدكتور أمبه، وكان يحاول استقطاب متخصصي الهندسة الكيماوية إلى الكلية. والسبب أنه كان قد قرر عدم تدريس هندسة البترول، والاكتفاء بالهندسة الكيماوية، على افتراض أن الطالب يتخصص في البترول في الدراسات العليا. ولم تضف هندسة البترول إلا في السبعينيات. ولنا ملاحظة بسيطة، أخي نجيب، على ذكر كتاب "صخور النفط ورمال السياسة" وكتاب الصحافي ليسي". فكون كلا المصدرين لم يذكرا أن الطريقي كان صاحب الفكرة لا ينفي كونها فكرته. ومعهما حق في عدم التعرض للموضوع لعدم وجود ذكر أو إثبات قطعي أن للطريقي علاقة بالكلية. فقد التزما بأمانة النشر، كما أنهما لم يذكرا اسما آخر كأب شرعي للكلية. ولا خلاف على أن الشيخ يماني ـــ الله يحفظه ـــ كان يشرف على تأسيس وإنشاء الكلية وبناء مرافقها واختيار المسؤولين فيها. وهذا ليست له علاقة بالفكرة الأولى، إن كانت فكرته أو فكرة شخص سبقه في المنصب. وإذا كانت شركة أرامكو الأمريكية، قد حاربت الشيخ يماني حول موضوع وجود الكلية، فقد أدمت أقدام الشيخ الطريقي عندما كان يحاول استعادة حقوق المملكة، التي لولا الله ثم الطريقي لما تحصلنا على كامل حقوقنا. وأتفق معك تماما على أنه من غير العدل أن نسقط الشيخ يماني من الترجيح. فكلا الرجلين له قامته وإنجازاته. وإذا محدثكم رجح كفة الطريقي في موضوع فكرة إنشاء الكلية، فهو اجتهاد شخصي بناء على تحليلي الخاص المبني على شواهد مادية ومنطقية، من دون أن يكون لدي "قطع حاسم"، كما تفضلت أنت أخي نجيب وأشرت في مقالك لترجيح كفة الشيخ يماني.