هل يمكن الاستغناء عن الابتعاث؟
من اللافت للنظر عند زيارة بعض الجامعات العالمية المميزة مثل هارفرد، وشيكاغو، وبيركلي، وكاليفورنيا، وأكسفورد، وكامبردج وغيرها، وجود خليط متنوع من الطلاب من كل أرجاء المعمورة، خاصة من الصين والهند وكوريا، واليابان، تلك الدول التي شقت طريقها في مجال الصناعة والخدمات، وأغرقت أسواق العالم بمنتجاتها وصناعاتها. نعم تلك الدول لا تزال ترسل آلاف الطلاب للدراسة في الجامعات المتميزة. لا بد أن هذا يعكس إيمانها بضرورة تنويع مصادر التعليم والاستفادة مما توصل إليه الآخرون في مجالات العلوم والفنون. من بين جميع الدول، تأتي الصين والهند وكوريا على رأس قائمة الدول من حيث عدد طلابها الذين يدرسون في الخارج. فعلى سبيل المثال، هناك أكثر من 700 طالب صيني يدرسون في الخارج. ولا تقتصر الدراسة على الدول النامية، بل إن هناك – على سبيل المثال - أكثر من 130 ألف طالب ألماني يدرسون خارج ألمانيا من بين نحو خمسة ملايين طالب أجنبي يدرسون في غير بلدانهم في عام 2014.
وللحقيقة، فإن القيادة في المملكة العربية السعودية أدركت أهمية الابتعاث منذ وقت مبكر. فقد تم ابتعاث 26 طالبا في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله، ثم أسهم برنامج الابتعاث على مدى العقود الماضية في إعداد الكفاءات المميزة التي قادت التنمية، وتقلدت معظم المناصب القيادية في الدولة مثل غازي القصيبي، وسعود الفيصل، وعبدالعزيز الخويطر، وغيرهم كثير.
وللابتعاث للدراسة في الخارج أهداف متعددة (تنموية وتعليمية ومجتمعية وثقافية)، منها: (1) تزويد سوق العمل المحلية باحتياجها من الكوادر السعودية المؤهلة المتخصصة، (2) تمكين الطلاب من تعلم العلوم الحديثة في المؤسسات التعليمية المتميزة عالميا، (3) إتاحة الفرصة للمتميزين من أبناء الوطن للحصول على تعليم متميز، (4) تعزيز التواصل الثقافي مع الثقافات المختلفة، والتعريف بثقافة العربية الإسلامية، (5) الاستفادة من تقدم العلوم وتنوع التجارب والخبرات في الشرق والغرب، مما يثري المجتمع السعودي عموما، والمؤسسات التعليمية خصوصا.وعلى الرغم من التوسع في مجال التعليم العالي وازدياد عدد الجامعات، فإن الابتعاث يبقى رافدا مهما لا يمكن الاستغناء عنه في المستقبل المنظور، ولا ينبغي التقليل من أهميته. فلا حاجة إلى التذكير بما تعانيه مؤسسات التعليم العالي في المملكة من شح في أعضاء هيئة التدريس السعوديين في المرحلة الحالية نتيجة إيقاف الابتعاث أو تقليصه قبل 20 سنة. لذلك لا نتمنى أن تتكرر التجربة، خاصة مع تزايد أعداد الجامعات السعودية وتفاقم الحاجة إلى أعضاء هيئة التدريس في الجامعات خاصة الناشئة، إضافة إلى تزايد الحاجة إلى توطين الأعمال في القطاع الخاص السعودي.
أخيرا، لا شك أن الحاجة ملحة لإصلاح برنامج الابتعاث وتطويره وربطه بالجامعات لإدارته والتأكد من تحقيقه لأهدافه النبيلة، بما في ذلك إصلاح حال الملحقيات التعليمية واختيار كفاءات مميزة بعيدا عن المحسوبيات. وعلى الرغم من ترشيد الابتعاث وتركيزه على التخصصات التي تتطلبها سوق العمل في الوقت الحاضر، فإنني آمل أن يتاح المجال لكل التخصصات، ولكن بأعداد محدودة حيث تقتصر على الطلاب المميزين والطموحين، لكي لا يحرم المجتمع السعودي من تنوع مصادر العلم والمعرفة في مجالات العلوم الصحية والهندسية والاجتماعية وكذلك الفنون والمسرح، وذلك لأن المجتمع السعودي في حاجة ماسة إلى التنوع والتكامل في جميع التخصصات العلمية والفنون. باختصار لا يمكن الاستغناء عن الابتعاث في جميع التخصصات ولكن بنسب متفاوتة.