المسلمون «يغزون» أوروبا
الغرب منهمك في مشاكل الشرق الأوسط ودوله.إن كان الإعلام مقياسا لما يشغل الساسة وأصحاب الشأن، فإن الشرق الأوسط وما يقع فيه من أحداث يقبع في أعلى سلم الأولويات لدى الغرب.
الغرب يكترث كثيرا لما يحدث في هذه المنطقة "الموبوءة" بالمشاكل والصراعات والحروب والاقتتال لا سيما عند تعرض مصالحه للخطر. من الصعب تحديد ماهية المصالح في الغرب لأن الساسة الغربيين تقودهم الفلسفة النفعية كمنهج عمل.
والنفعية تعني أن مصلحتي ومنفعتي تأتي قبل أي شيء آخر. المنفعة ليست مستديمة، تتبدل تبديلا حسب الظروف والأحداث، وقد تتطلب اتخاذ مواقف والقيام بأعمال واستحداث واستنباط أطر خطابية "مفردات وتعابير" تؤشر إلى سردية مختلفة يندهش الناس ويأخذهم العجب عند قرأتها أو الاستماع إليها.
ما كان مذموما مستهجنا غير مرغوب فيه يصبح مستحبا ومستحسنا وبديعا، ونستطيع الاستدلال إلى ذلك من الخطاب. الخطاب شيء مذهل وتحليله يصل بنا إلى مكامن النفس البشرية التي قد لا يدركها حتى صاحبها.
هناك من العلماء والمفكرين والفلاسفة من يقول نحن لسنا إلا انعكاسا للغة والخطاب الذي نستخدمه. اللغة تكوننا وتقدمنا إلى أنفسنا والعالم الذي حولنا. العالم الذي حولنا مثل المرآة يكشف عن نفسه ويميط اللثام عن مكنوناته من خلال اللغة.
لم يخترع البشر شيئا مثل اللغة ولن يكون. اللغة كونت الإنسان على ما هو عليه وهو بدوره شكّل وكوّن اللغة التي من خلالها يعبر عن نفسه وبيئته ومحيطه وواقعه الاجتماعي وزمانه ومكانه.
اللغة تحارب الكتمان وتبوح بالأسرار لأنها شفافة. حتى السكوت والرقابة على الخطاب وحبسه والتلاعب به وفرض أنماط خاصة منه خاصية تنفذها اللغة بشفافية لأن الصمت والكبت والحجر مؤشر ودلالة ذات معنى كبير.
سقت هذه المقدمة كي أتمكن من الولوج في موضوع يقض المضاجع في الغرب.الناس بدأت تخشاه، لا بل أدخل الرعب في قلوب الكثيرين.
لقد غادر الإعلام الغربي المكارم التي كان يتميز بها من نزاهة وحيادية وموضوعية في تناول الأحداث لا سيما التي تمس ثقافات وحضارات لا تشترك معه في مزاياها وممارساتها وأنماطها الاجتماعية.
كان الإعلام سابقا يغدق المديح على تعدد الثقافات ويرى فيها غنى ونعمة. كان الإعلام يسلط الضوء على أن المجتمعات ذات التعددية أكثر قبولا للديمقراطية وحرية التعبير والعبادة وقبول الآخر المختلف من مجتمعات مغلقة تنظر إلى الآخر المختلف بريبة والتباس وشك وظن.
اليوم هناك انقلاب في التوصيف. الأنماط الخطابية الدارجة تتحدث عن "غزو" و"هجمة" و"استغلال بشع" لامتيازات الرفاهية التي يتمتع بها المواطنون الغربيون وأن أكثر القادمين، وأغلبهم من المسلمين، ينظر إليهم بازدراء، وأن غايتهم ليست الأمان والهرب من الاضطهاد بل في قلوبهم حقد دفين على أسلوب الحياة وإحداث انقلاب فيه.
وظهرت أحزاب ومجموعات ضغط تضع سيناريوهات مخيفة عن المستقبل الذي فيه "سيغزو" المسلمون الغرب باستغلال المنافع التي يقدمها اللجوء الإنساني بعد أن فشلوا في اقتحامه بعساكرهم.
ويسلط الإعلام الضوء على أي حدث يخص اللاجئين الذين يخاطرون بحياتهم وأرواحهم للوصول إلى بر الأمان. صار اللجوء واللاجئون في الغرب قضية القضايا. هم يسدون أبوابهم واللاجئون يقتحمونها. هم يسنون القوانين للحد من تدفق اللاجئين واللاجئون قادمون.
نأتي إلى لب الموضوع ونقول إن القادمين لا نية لهم في "غزو" الغرب. اللاجئون مسلمون كانوا أو غيرهم ضاقت بهم الأرض والحيلة ويفضلون الموت عطشا والفتك من قبل الحيوانات المفترسة في الجبال والغرق في أعالي البحار على البقاء في اضطهاد مستديم وفوضى لا نهاية لها.
أغلب اللاجئين، وهذا ما ينكره الخطاب الغربي، قادمون من دول هي أساسا ضحية لغزو غربي بكل ما للكلمة من معنى أو تدخل غير مباشر لحماية مصالحه. الخطاب ينكر أن يضع اللجوء ضمن سياقه.
كل الحضارات التي فاقت تطورا ما يحيط بها تصبح قبلة الفقراء والمضطهدين. الناس تبحث عن الأمن وعن رغد العيش وإن وجدت إليه سبيلا هرعت له. وحضارات كبيرة أسقطها الفقراء والمضطهدون.
مشكلة الحضارة الغربية أن الفقراء والمضطهدين الذين تخشاهم والذين صاروا يتدفقون أفواجا إلى الدول الغربية بأعداد أصبح صعبا على بعض الحكومات التكفل بإقامتها، هم ضحايا اضطهاد وغزو واستعمار الحضارة هذه وسياساتها ونهجها المصلحي.
الغرب ينسى أن الشرق الأوسط جاره وأن الاثنين طوال التاريخ كان لهما كر وفر في حروب وغزوات وموجات بشرية وتبادل خبرات وتجارة وثقافة.
ولكن اليوم ليس مثل البارحة. هناك واحة من الرخاء. بدلا من أن يستثمر الغرب الرخاء هذا ويستمتع بالرفاهية ويترك جيرانه ولا يتدخل في شؤونهم ويغادر مفهوم الاستعمار والسلطة وتبعية الآخر له، يحشر أنفه في كل كبيرة وصغيرة في الشرق الأوسط.
وبسبب هذه السياسات منذ استعماره لهذه المنطقة وزرعه لإسرائيل في قلبها ومن ثم غزوه لعدد من دولها في السنين الأخيرة، هاج الشرق الأوسط وهاجت شعوبه وأخذ الناس يهيمون على وجوههم في الأرض وقبلتهم الغرب، حاليا مركز الرخاء والأمان.
الخطاب الغربي يكتم هذا السياق ولا يتطرق إليه، أي لا يتحمل مسؤوليته المباشرة عن مأساة المهاجرين ومأساته التي صارت جلية بعد تدفقهم بأعداد كبيرة صوب دوله.
والقادم أخطر إن مضى الغرب في سياساته التي يرى فيها أن الفوضى الشرق أوسطية، خلاقة أو غيرها، تخدم مصالحه الآنية.
الإسلام لا ناقة له ولا جمل في تبعات ونتائج السياسات الغربية. كما أن الإسلام لا ناقة له ولا جمل في كل ما تقوم به الفرق التكفيرية الظلامية المتطرفة التي تحاول الإساءة إلى تسامحه ونقائه وجماله وتآخيه الذي يقبل الآخر ويتعايش معه.