رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


أيتها الحكمة .. من المسؤول عنك؟

"الحكمة" صفة إنسانية كريمة، تبدو عصية على التعريف المحدد؛ لأنها تتمتع بمعنى واسع متعدد الأبعاد، وتخضع للاختبار في حالات ومواقف مختلفة في شتى مجالات الحياة، وتعطي نتائج قد لا تحقق رضا الجميع بالدرجة التي ينشدونها. وإذا كان الوصول إلى الحكمة المثلى أمرا غير مضمون، فإن "توخي الحكمة" توجه متاح للجميع، فيه محاولة حميدة للتوصل إلى الحكمة في التعامل مع معطيات الحياة، وفي مواجهة تحدياتها؛ وفيه الطريق المطلوب الذي يمكن أن يقودنا إلى الحكمة المنشودة، أو على الأقل الاقتراب منها.
تشمل أبعاد الحكمة "الفضيلة، والمعرفة، والخبرة، والمسؤولية، والحس الإنساني العام، واستشعار معطيات الحالة المطروحة أو البيئة المحيطة، والصبر، والتفكير، والنضج أو الرشد في استيعاب أمور الحياة، والسلوك القويم، وحسن الإدارة، والاهتمام بالجودة، واحترام الناس، وتجنب الصراع، وحل الخلافات بالتي هي أحسن، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، وغير ذلك مما يرتبط بالسعي نحو الأفضل".
وفي ديننا الإسلامي الحنيف، هناك بعدان مهمان آخران، يمكن إضافتهما إلى ما سبق. "الرفق"، حيث قال الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه"؛ و"اليسر"، حيث قيل في وصفه صلى الله عليه وسلم "ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما". ولا شك أن في الحكمة "خيرا كثيرا"، فقد قال الله تعالى فيها في سورة البقرة "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا". وإذا كنا نشكر من حولنا على أعمالهم الحسنة بالدعوة لهم "جزاكم الله خيرا"، فلعلنا نستطيع أن نشكرهم أكثر بدعوة مضافة أخرى تقول "وألهمكم الحكمة".
وقد ترتبط الحكمة، في تصرف أو سلوك إنساني في مجال من المجالات، بعادات الإنسان الناتجة عن المعرفة المُكتسبة بالتعليم أو التدريب، أو الخبرة المُتراكمة، أو الأنظمة التي يطلب الالتزام بها. ومن ذلك على سبيل المثال، لا الحصر، ما نجده في تصرفات القائمين على بعض خدمات الأعمال، الذين تلقوا تدريبا على حسن السلوك مع العميل، وحل مشاكله بالتي هي أحسن، ومعاملته برفق، وتيسير أموره، والاستجابة لمتطلباته، حرصا على نجاح هذه الأعمال وتحقيق أهدافها.
ولا شك أن التدريب على حسن التصرف أمر حميد، لكن الطموح إلى "توخي الحكمة" يحتاج إلى المزيد. يحتاج إلى أن يكون طموحا ذاتيا، يسعى إلى توجه حميد في شتى أمور الحياة، طموحا يتطلع إلى تنمية إنسانية ذاتية، يؤمل أن تعم الجميع، لتسهم في تعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ولتفعل الجهود وتوجهها نحو بناء مستقبل أفضل.
وإذا نظرنا إلى الحكمة من حولنا؛ وحولنا في هذا العصر أبعاد كثيرة من القضايا، منها القريب منا، ومنها البعيد الذي تقربه وسائل العولمة وانتشار المعرفة، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، أو مجموعة من الأحياء المتقاربة في التواصل، حتى إن تباعدت فيه المسافات.
إذا نزلنا إلى الشارع، وحاولنا رصد "سلوك الحكمة" فيه، فماذا نجد؟ هل نجد للمشاة دورا فيه؟ وهل يستطيعون عبور الشارع بين طرفيه بأمان واطمئنان؟ هل يُراعي سائقو السيارات بعضهم بعضا وفقا لأنظمة السير، أو حتى بالحس الإنساني، أو الرفق في التعامل؟ هل يستخدم السائقون إمكانات الإشارة في سياراتهم لبيان اتجاههم نحو اليمين أو إلى اليسار؟ هل يراعون السرعة المحددة على الطرقات، إن لم تكن عيون "نظام ساهر" أمامهم؟ لا شك أن "توخي الحكمة" في الشارع مطلوب من الجميع؛ لأن لغيابها أو لمحدودية وجودها تكاليف إنسانية واجتماعية، بل اقتصادية باهظة.
ما مستوى الحكمة الذي يمكن أن نراه إذا رصدنا طعامنا فيما هو كائن، وفيما يجب أن يكون للمحافظة على الصحة الشخصية التي لا تؤثر فقط في الفرد، بل في الأسرة، وفي العمل، وفي المجتمع بأسره؟ ما مستوى الحكمة الذي يمكن أن نراه إذا رصدنا أمور استهلاك المياه والطاقة والمحافظة على البيئة، ومعضلات التدخين والمسكرات والمخدرات؟ وإذا رصدنا قضايا السلوك الاجتماعي، والالتزام المهني، والتعامل بين الناس. لا شك أننا سنرى في حياتنا ممارسات حميدة، وسنرى أيضا ممارسات غير حميدة؛ ولا شك أن في "توخي الحكمة" تفعيلا للحميدة منها، وتجنبا لغير الحميدة، وهذا هو المأمول.
إذا انتقلنا إلى دائرة أبعد، ونظرنا إلى حال الحكمة لدى الآخرين حول العالم، فماذا نجد؟ هناك نجد "حكمة" في بعض الأمور وبعض الأماكن، ونجد "غيابها" أيضا في بعض الأمور وبعض الأماكن. وعلينا، في توخي الحكمة، أن ندرك إيجابيات الآخرين، ونحاول اكتسابها والاستفادة منها، وأن نعي السلبيات فيهم، ونسعى إلى الابتعاد عنها وتجنب أضرارها. وربما علينا أيضا أن نبرز ما لدينا من إيجابيات، كي يكون في ذلك فائدة لخبرات الآخرين.
تقضي الحكمة بالتفاعل وتبادل المنافع مع الآخرين بالتي هي أحسن؛ وتسعى أيضا إلى تجنب أي صراع ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا. وقد فسر عالم الاقتصاد الشهير آدم سميث، الذي عاش في القرن الثامن عشر نجاح إدارة التعايش بين الناس وتبادل المصالح والإمكانات بينهم بوجود "يد خفية" تقوم بذلك. فهذه اليد تسعى إلى جعل الجميع راضين عن التعامل، وناجحين في الحياة في بيئة من التفاهم بعيدة عن جنوح الأطماع وإطلاق الصراعات.
وإذا عدنا، في مثل هذا التفاهم بين الناس، إلى ديننا الإسلامي الحنيف، نجد أن الله سبحانه وتعالى عبر عنه في سورة الحجرات بالقول "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم". فجميع الناس في هذه الآية الكريمة مدعوون إلى التعارف وليس إلى الصراع. ففي التعارف تعاون، الجميع فيه فائزون، وفي الصراع استنزاف وخسائر تطول الجميع.
"توخي الحكمة" نظام مسؤولية اجتماعية شامل، لكل إنسان فيه دور، ولكل مسألة أو قضية فيه حساب. للإنسان في هذا النظام أثر بقدر مركزه وأهميته وتأثيره في الآخرين. وللمسائل والقضايا حساب بقدر القيمة التي تحملها للأفراد والمجتمعات. وقد تبقى الخلافات حتى بعد توخي الحكمة من قبل الجميع، لكن التعامل مع هذه الخلافات يبقى خاضعا لتوخي الحكمة. المهم والمأمول أن يتجه الجميع إلى توخي الحكمة بعيدا عن كل الشرور وكل الأطماع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي