الدور الغائب .. لجماعات جدة التاريخية
في بحر شهر رمضان المبارك تلقت أمانة مدينة جدة وابلا من الانتقادات اللاذعة من قبل بعض الجمعيات المهتمة بالشأن التراثي والتاريخي في منطقة جدة التاريخية، هذه الجمعيات طالبت أمين مدينة جدة أن يعنى بجدة التاريخية حتى تكون مزارا ملائما للزائرين الذين يتقاطرون على المنطقة التاريخية طوال الشهر الكريم.
والمطالبات مقبولة من حيث المبدأ لأنها وصفت واقعا تعانيه جدة التاريخية، إلا أن مسؤوليات أمانة جدة لا تتمثل في صغائر الأشياء مثل غطاء غرفة تفتيش الصرف الصحي، وكوم من قمامة ذابلة، أو لمبة لم تعد تلمع بالإضاءة في زقاق ضيق.
ولذلك يجب أن ندرك جميعا أن وظائف أمانة جدة ضخمة ولا تتوقف عند صغائر الأشياء، بل إن من مهام الأمانة تنفيذ مشاريع البنى التحتية العملاقة مثل الكباري، والأنفاق، والسدود، وبناء الواجهات البحرية، وشق الطرق ورصفها وبناء أرصفتها، وتصميم المخططات لمدينة تتقدم نحو ترسيخ أقدامها في قائمة العالمية، أيضا من وظائف أمانة جدة الكثيرة متابعة ومراقبة نظافة المطابخ والمطاعم بطول وعرض مدينة جدة التي باتت تحتضن نحو ثلاثة ملايين نسمة، وفيها مئات الآلاف من المطاعم وآخرها آلاف من المطاعم في المولات والحوانيت والخانات القريبة والبعيدة من جدة، التي امتدت من ذهبان شمالا حتى الخمرة جنوبا.
وأخيرا وليس آخرا فإن الدولة كلفت الأمانة بتصميم مشروع متكامل لجدة التاريخية يتناسب مع الوضع العالمي الذي بلغته المنطقة بعد أن أعلنت "يونسكو" العالمية في عام 2014 وضع جدة التاريخية ضمن قائمة التراث العالمي.
وتستهدف الدولة من مشروع جدة التاريخية إلى تعريف المواطن بتاريخ بلاده والوقوف على عمقها الحضاري، والإلمام بمواقع التاريخ الإسلامي فوق أراضيها الخيرة، وأيضا معرفة التعاقب الحضاري المتقاطع فوق أرض شبه الجزيرة وصولا إلى ملحمة تأسيس الدولة السعودية الحديثة على يد ــ المغفور له بإذن الله ــ الملك عبد العزيز ورجاله البواسل.
والأمانة طرف من أربعة أطراف مسؤولة عن التراث الوطني في مدينة جدة المليحة، وهذه الجهات هي: محافظة جدة، الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، أمانة محافظة جدة، والغرفة التجارية الصناعية.
إذن نستطيع القول إن التراث الوطني هو بمثابة المكون الأساسي للهوية الوطنية، ولذلك فإن المقام السامي يحتضن مشروعا وطنيا أطلق عليه اسم مشروع خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري، أكثر من هذا فإن الدولة أصدرت في عام 2014 نظاما أطلقت عليه اسم نظام الآثار والمتاحف والتراث العمراني إمعانا منها في توقير التراث الوطني، وآثاره وممتلكاته، وأعطته شرعية الزيارة والاهتمام من القاعدة "حيث عامة الناس".. إلى القمة "حيث التدابير الحكومية المهمة".
ولذلك إذا تعطلت لمبة في زقاق من أزقة جدة المتعرجة، أو سرق غطاء من أغطية غرف الصرف الصحي، أو فقئت عين لمبة في منعطف، فلن يضير هذه الجماعات أن تقوم بإصلاحها وتصليحها، وإلا ما هي الأعمال التي تقوم بها هذه الجماعات التي تتشدق في "الجية والرائحة" بأنها تهتم بالمنطقة التاريخية وتعشقها.
إن عشق المنطقة التاريخية له تبعات وله إسهامات في ترميم وتنوير هذه المنطقة، وليس مجرد "التعييب" وعرقلة الأعمال الكبيرة التي يقوم بها مرفق كبير مثل مرفق أمانة مدينة جدة. بمعنى أن وظيفة أمانة جدة تجاه جدة التاريخية أن تجعل جدة الكبرى من أكبر المدن السياحية في منطقة الشرق الأوسط، ولذلك فإن أمانة جدة تسعى إلى وضع مشروع يرسخ بقاء جدة التاريخية جنبا إلى جنب مع المواقع المرصودة في قائمة التراث العالمي، أي أن غطاء البيارة، واللمبة المعطوبة، وكوم الزبالة لا تستحق أن نرمي بسببه أمانة جدة بالتقصير والإهمال في حق التراث وفي حق السياحة الوطنية، يجب أن ننظر إلى الأمور بحجمها الطبيعي ولا نضخمها أو "نورمها" ثم يجب أن نكلف أنفسنا بجزء مما نكلف به الآخرين.
لقد كان الأجدر بهذه الجماعات المتناثرة في أزقة جدة القديمة ألا تهتم بتوزيع الاتهامات هنا وهناك، ولكن الأجدر بها أن تقوم هي بهذه الأشياء الصغيرة ولا تشغل الأمانة بها، بل المفروض أن تفسح المجال أمام الأمانة للقيام بالمهام العظيمة التي تقوم بها من أجل تحويل جدة إلى مدينة تتسم بالمشاريع التفاعلية العصرية الحديثة كنافورة أبحر التي ستكون النافورة الرقمية الفريدة على مستوى العالم، وكنافورة الحمراء التي كتبت اسمها في سجلات موسوعة جينيس كأكبر نافورة على مستوى العالم، أو كما سارية لا إله إلا الله التي انتصبت شامخة في ميدان البواخر كأعلى سارية في العالم.
أغتنمها فرصة وأؤكد أن محافظة جدة ليست مسؤولة عن المنطقة التاريخية فحسب، بل هي مسؤولة عن بناء وتلميع وتحسين وجه جدة من أقصى حدود ذهبان شمالا.. إلى أقصى حدود الخمرة جنوبا، والباقي على المتشدقين من أصحاب الأفواه الكبيرة أن يكلفوا أنفسهم بها!
إن المملكة بلد الحضارات ومن أرضها بزغ نور الإسلام، وهذه القيمة تحظى باهتمام كبير من المسؤولين كافة، بدءا من خادم الحرمين الشريفين وحتى آخر مواطن ومواطنة، وما يسري على كل مدن المملكة يسري على مدينة جدة.