تعدد الانتماءات وذوبان الهوية العربية .. لمصلحة من؟
تواجه الدول العربية ضعف الانتماء الوطني والعربي على حد سواء، وكذلك تعاني من التفكك وتجزئة المجزأ بأيدي أبنائها مدفوعين بغياب الرؤية بعيدة المدى، أو الفهم الخاطئ للدين، أو تأثير قوى خارجية من أجل أن تتحول الدول العربية من مفعول بها إلى مفعول فيها. لا يمكن لأي تكتل أن يكون فاعلا وصامدا ومؤثرا ما لم يستند إلى "مشتركات" (أي عوامل مشتركة) أو بالأحرى مصالح أيا كان نوعها، تتبلور فيما بعد في هوية لتلك الدول، بعيدا عن المشاعر والعواطف والأماني! الدول الأوروبية أدركت ضرورة إيجاد هذه المشتركات وعملت على تنميتها على الرغم من اختلاف اللغات والعادات والتقاليد. وفي المقابل، تتمتع الدول العربية بعوامل مشتركة لا تتطلب منها جهدا لإيجادها، بل تحتاج فقط إلى تعزيز وتنمية ورعاية. فالدول العربية تشترك في اللغة والدين والعادات والتقاليد، إضافة إلى إمكانية التكامل الاقتصادي، حيث وفرة القوى العاملة في بعضها ونقصها في بعضها الآخر، وكذا وجود الأراضي الزراعية والموارد المائية في بعضها، ووجود رأس المال في بعضها الآخر. ولكن عوامل خارجية بدءا بالاستعمار، ومرورا بغرس إسرائيل في جسد الأمة العربية، وانتهاء بإثارة نعرات الطائفية المذهبية من قبل قوى خارجية، والتشدد الديني كردة فعل لسياسات دولية تجاه المنطقة، كلها عوامل تكالبت لإضعاف جسد الأمة العربية الهزيل.
لقد شهدت حقبة ما بعد الاستعمار بزوغ مفهوم "القومية" مع حركة النهضة العربية، ولكن من المؤسف أن "القومية" فشلت لأنها أخفقت في إيجاد حلول للمشكلات التي تواجه المجتمعات العربية في ذلك الوقت، ومما زاد الطين بلة أن بعض دعاتها لجأوا للتقليل من شأن الدين نتيجة تأثر بعضهم بالماركسية والاشتراكية، مما أحدث غربة وفجوة بين الدين والقومية العربية، وأثار ردة فعل عكسية من قبل الإسلاميين الذين بالغوا – بدورهم – في وصف كل من يتحدث عن "القومية" أو ينادي بها بـ "العلماني"، ما ألحق المزيد من الضعف بالانتماء والهوية العربية. وخلال السنوات الأخيرة قويت شوكة التيارات والجماعات الإسلامية على حساب ضعف الشعور القومي العربي، خاصة مع استمرار سياسات الولايات المتحدة الأمريكية غير العادلة تجاه المنطقة العربية، مما زاد من شعبية حركة الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى، ظنا أن الطريق ستصبح ممهدة لتطبيق أفكارها الرامية لإنشاء دولة الخلافة، ولكن ما لبثت أن أخفقت في مسعاها عند أول اختبار، وأظهرت عدم قدرتها على تقديم حلول عملية للمشكلات التي تواجه المجتمعات العربية. ولا يزال المواطن العربي يعاني من تعدد الولاءات والانتماء، كالانتماء للقبيلة، وللحزب، وللطائفة الدينية، وللوطن، وللأمة العربية، وللأمة الإسلامية!
لذلك أذكركم - أيها الأعزاء - أننا سنعض أصابع الندم عندما يزداد الانتماء العربي ضعفا، وتزداد الدول العربية تفككا وتجزئة، وتكتمل فصول مسرحية طمس الهوية العربية، نتيجة زيادة الميل للانتماءات الحزبية والطائفية على حساب الانتماء الوطني، إضافة إلى سيادة الجماعات الإسلامية المتناحرة، وإدارة شؤون العرب من قبل أقليات ليست عربية، كما يحدث في بعض الدول العربية في الوقت الحاضر.
وأخيرا ما العمل؟ لا بد من العناية بالأمور التالية: أولا إعادة هيكلة جامعة الدول العربية على أساس تنظيمي مؤسسي واستراتيجي من أجل تشجيع بناء شراكات علمية وثقافية بين المؤسسات العلمية في الدول العربية، وزيادة التبادل التجاري وتعزيز التكامل الاقتصادي؛ وثانيا: نبذ الطائفية والتشدد الديني من خلال تطوير البرامج التعليمية وإعادة النظر في الخطاب الديني، وثالثا، العودة للقرآن والسنة دون المبالغة في اتباع المذاهب التي تثير الفتنة والفرقة كالمذهب الشيعي بفروعه، والسني، وغيرهما. ورابعا: تقليص فرص التدخل والهيمنة الأجنبية من خلال زيادة العدالة الاجتماعية والمشاركة المجتمعية في صنع القرارات التنموية.