نماذج من اجتماعات الشركات ضد المجتمع
ليست المرة الأولى ولا الثانية بل أكثر من ذلك، تحدثت عن مشكلة اتفاق الشركات واجتماعات رجال الأعمال خارج إطار مراقبة المجتمع. وهذه الظاهرة تعد من أخطر التصرفات الرأسمالية على المجتمعات، فهي تؤدي ـــ مع الإهمال المتزايد لها ـــ إلى شكل من الاتفاق يصعب حله تماما إلا بآلام جسيمة للمجتمع. إنني أحذر مرة أخرى وسأستمر مرارا في التحذير من السماح للشركات ورجال الأعمال بالاجتماع خارج إطار منظومة متفق عليها وواضحة ومعلنة وتحت مراقبة صارمة، بل إنني أذهب إلى أبعد من هذا وأطالب بتجريم أي لقاءات أو اتصالات سرية فيما بين هذه الفئات التي تنتهي إلى اتفاقيات غير معلنة. ورغم التحذير المستمر وبدلا من أن تحل هذه الظاهرة ومشكلاتها وتمارس جمعية حماية المستهلك حضورها أو أن تستخدم وزارة التجارة حقوقها، فإننا بدلا من ذلك نواجه توسعا في لقاءات الشركات ورجال الأعمال بصورة أصبحت على شكل مؤتمرات ولقاءات سنوية ومناسبات خاصة، وجميعها مع الأسف تنتهي بالاتفاق على مجموعة المستفيدين من خدمات الشركات Stakeholders. وأنا لا أكتب اليوم من فراغ بل من معلومات أصيلة مصادرها رسائل تصلني من وقت إلى آخر، وإضافة ما تعلنه الصحف بشكل دائم والمقابلات الشخصية ونتائج الدورات التدريبية. وهناك من الأمثلة كثير.
فمثلا نجد أن مشكلة العمالة المنزلية تعقدت كثيرا وذلك نتيجة انفراد مجموعة لجان لرجال الأعمال في الغرف التجارية بدون إشراف حكومي أو مجتمعي بأعمال هذه المجموعات، هذه اللجان كانت تتصرف وتتحدث باسم المجتمع وتعقد اللقاءات الدولية وتناقش هموم المجتمع بل تتخذ قرارات على هذا الأساس، لكن في الحقيقة فإن المجتمع الذي كانت تمثله لم يتعدَ مجتمع رجال الأعمال والتجار. وبعد سنوات انتهينا إلى أزمة كبيرة واحتكار في سوق العمالة المنزلية لن تحل قريبا في الوقت الذي تنعم فيه دول الجوار بمزايا تعتبر أسطورية إذا قارنتها بما لدينا. تحاول وزارة العمل ترقيع ما مزقته هذه اللجان، ولكن كيف للبناء أن يتم طالما أنت تبني وغيرك يجتمع ليهدم. مثال آخر فيما تؤكده التقارير الدولية من انخفاض أسعار الغذاء حول العالم، بينما نحن نواجه ارتفاعا في الأسعار لم يستقر بعد، فضلا عن أن يستجيب للانخفاض العالمي، واقتصاديا لا يوجد تفسير لهذا إلا في اتفاقات غير معلنة للتجار.
وكما أشرت فإن الإهمال في مراقبة ظاهرة الاجتماعات المغلقة للشركات ورجال الأعمال تحت أي سقف وأي مكان سيقودنا إلى مشكلات أكثر عمقا وتأثيرا، فقد تحول اتفاق الشركات إلى أبعد من قضية الأسعار واحتكار المنتجات والمناطق، بل بدأ يصل إلى الوظائف والرواتب والمزايا والعوائد. فالأصل أن الموظف حر فيما يقرره لنفسه من عمل ومكان، والأصل أن سوق العمل سوق حرة تتنافس الشركات والأفراد على فرص العمل المتاحة، ويتحدد سعر ساعة العمل بناء على هذا. وإذا كنا نلاحظ أن وزارة العمل تعاني الأمرين من عدم استجابة الشركات السعودية ورجال الأعمال في توفير فرص عمل وأن هناك فائضا في عدد طالبي العمل أكثر من حاجة الشركات، وهو الأمر الذي لم يمكن الوزارة من فرض شروط السعودة إلا بقوة النظام، وقليلا ما يفلح الأمر مع ابتكار الشركات وسائل تهرب واسعة الحيلة، فماذا يمكن أن يحصل إذا كان العكس هو الصحيح أي أن تتوافر وظائف بأكثر من عدد المؤهلين لشغلها، فمن المتوقع في سوق حرة للعمل فعلا وتحافظ على حقوق الموظفين أن يرتفع أجر الساعة في هذه الحالة من ندرة المؤهلين، وأن ترتفع المزايا لهذا النوع من المهن التقنية، لكن إذا قرأنا الموضوع في ظل قدرة رجال الأعمال والشركات على الاجتماع الدوري في زوايا مظلمة في الغرف التجارية أو في استراحات وقاعات خاصة فإننا سنواجه دورانا بعكس عقارب الساعة.
هذه الحقيقة لقد اتفقت كمجموعة من الشركات في قطاع صناعي مهم على عدم السماح للمهنيين فيها بالانتقال فيما بين الشركات إلا بشروط موحدة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب. فلا يجوز لشركة أن تمنح مزايا أعلى من الشركة السابقة التي انتقل منها الموظف. فالمسألة تظهر في توحيد المزايا، لكن نظرا للاتفاق فإن الجميع سيتفق على المزايا الأقل. فمن المستحيل فعليا أن ينتقل الموظف من شركة ذات مزايا عالية إلى شركة ذات مزايا منخفضة، ولكنه يتجه طوعا إلى الشركة ذات المزايا. وإذا استمرت الحال هكذا فإن جميع الموظفين في الشركة الأقل مزايا سيتجهون إلى الأعلى. لكن في ظل اتفاق الشركات فإن الشركة الأعلى مزايا ستقبل الموظفين بمزايا الشركة نفسها المقول منها، وهكذا ستعمم المزايا والعوائد الأسوأ للموظفين. وبعيدا عن أي عواطف في هذا الموضوع فإن الاجتماعات السرية تؤدي دائما إلى إبطال آلية السوق الحرة وتقود إلى ظواهر كارثية حتما.
إنني أكرر مطالبتي بأن يصدر نظام يجيز لجمعية حماية المستهلك أن تراقب اجتماعات الشركات وأن تمارس دورا أكثر فاعلية في هذا الجانب وأن تتعاون بشكل صريح وواسع النطاق مع مجلس حماية المنافسة وأن تتجاوز قضية الأسعار إلى قضايا أوسع أكثر شمولية.