كفاءات سعودية راقية لا يجوز إهمال رأيها
في علم الصحافة والإعلام نميز بين صنفين من الكتابة. في الصنف الأول نتوقع من الكاتب أن يكون نزيها ومتجردا وموضوعيا وحقانيا وعادلا ومنصفا. في الصنف الثاني يبتعد الكاتب عن النزاهة ويقدم لنا عرضا يعبر فيه عن رأي لا يخلو من الذاتية والمحاباة والتحيز.
صفحات الجرائد الرفيعة المستوى تؤشر للقارئ إلى ما يدخل ضمن الصنف الأول وما يدخل ضمن الصنف الثاني. لن أسهب في شرح الخطاب الإعلامي بيد أنني أقول إن كتّاب الأعمدة من أمثالي تدخل كتاباتهم ضمن إطار الخطاب الذي قلما يعكس الموضوعية في الطرح وينحو صوب الذاتية والتحزب وعدم التجرد ونزعة تميل نحو طرح مواقف يعبر فيها الكاتب عن ميوله.
ولهذا نرى أن القراء نادرا ما يتفقون على ما يرد في صفحات الرأي. وكتاب الرأي قد يكونون هدفا للمديح والثناء أو الذم والقدح. والبشر بطبيعتهم ينشرحون ويبتهجون إن أتاهم الشكر والمديح ويحزنون ويقلقون إن أتاهم الذم.
في مسيرة هذا العمود ـــ الذي يتناول شؤونا فكرية وفلسفية شتى ــــ يصلني كثير من الرسائل من مختلف أنحاء العالم. وبعض القراء النجباء يرسل لي مقالات أو أبحاثا لهم في الموضوع الذي أطرحه.
شخصيا أتجنب تناول أمور هكذا وأعزف عن تقديم أي دراسة أحصل عليها من القراء كي نبعد العمود هذا عما قد يعده البعض بمثابة دعاية لمرسلها حفظا لمكانة جريدتنا الغراء هذه.
بيد أنني أرى لزاما علي أن أشير إلى رسالة وردتني تعليقا على مقال الأسبوع الفائت من الدكتور خالد بن عبد الله السويلم. والدكتور السويلم غني عن التعريف، إنه من الكفاءات التي لعبت دورا في مؤسسة النقد العربي السعودي "البنك المركزي" وإقامة دعائم وأسس جعلت من المؤسسة هذه واحدة من أهم المؤسسات المالية المهنية في العالم.
كان الدكتور السويلم مديرا عاما في المؤسسة، ولمكانته البارزة تلقفته جامعة هارفارد الأمريكية الشهيرة وعينته عضوا وخبيرا في مركز بيلفر للعلوم والشؤون الدولية ومركز التنمية الدولية في الجامعة ذاتها.
لم يكتف الدكتور السويلم برسالته الرقيقة وهو يذكر فيها أهمية الموضوع الذي طرحته في رسالة الأسبوع الفائت بل أرفقها بدراسة أكاديمية رصينة أصدرها ضمن منشورات جامعة هارفارد لعام 2015 يتناول فيها من خلال أدلة علمية وتحليل معمق يتوصل فيه إلى نتائج وكأنها مرآة تعكس ما يحدث من غصة في الصناديق السيادية نتيجة الهبوط المفاجئ والحاد في أسعار النفط.
والدراسات الأكاديمية التي تصدرها جامعات ذات صيت ومكانة مثل جامعة هارفارد تقع في خانة الكتابة الموضوعية التي يتجرد فيها العالم قدر الإمكان عن ذاتيته وميوله ويضع مصلحة العلم والأكاديمية فوق أي مصلحة أخرى.
ولا علم لي إن كان أصحاب الشأن في المملكة على دراية بدراسة الدكتور السويلم، إلا أنها مؤشر على وجود عقول جبارة ذات إمكانات كبيرة وكفاءات على مستوى العالم في المملكة. هذه الكفاءات على أصحاب الشأن رعايتها وتقديمها ومنحها ما تستحقه من مركز ومكانة لإدارة شؤون الدولة أو تقديم النصيحة لأصحاب القرار.
دراسة الدكتور السويلم تتألف من نحو 30 صفحة ولكنها مليئة بالعبر والتوقعات وتوصيات ومقترحات إن طبقت لفقدت أسعار النفط أو النفط بذاته الأثر المباشر الذي تلعبه في الدورة الاقتصادية برمتها.
ما يقدمه الدكتور السويلم ربما هو الطريق الذي ينتظره الكل وهو الوصول وبسرعة إلى المرحلة التي تتحكم الدولة في الاقتصاد بدلا من أن يتحكم فيه وفيها الريع والنفط.
والدكتور السويلم في بحثه يتجنب الحشو ــــ الصفة التي تلازم أغلب الدراسات الأكاديمية. يدخل في صلب الموضوع مباشرة من خلال بيانات وإحصائيات دقيقة لما ستكون عليه حالة الاقتصاد وحالة الصناديق الاقتصادية للولوج في اقتصاد متنوع تملك فيه الدولة لا بل تتحكم بالوسائل الخاصة لإدارة الميزانية والصرف والنفقات وتقديم الخدمات دون أن يتحكم فيها النفط وسعره.
يقول السويلم إن النفط هو المورد الرئيس لتمويل النفقات الاجتماعية الضخمة للمملكة التي لا بد من الحفاظ عليها لأنه من الصعوبة بمكان خفض النفقات الخاصة بالصحة والتربية والدفاع والخدمات العامة والخدمة المدنية.
ويؤكد أهمية وجود سياسة اقتصادية تؤدي في نهاية المطاف إلى فصل النفقات والميزانية عن المدخرات وواردات النفط.
وتظهر الدراسة أن الوسيلة ربما الوحيدة أمام الدولة للإبقاء على مستوى الخدمات تتطلب السحب المستمر من الصناديق والأرصدة. القاعدة الاقتصادية تقول إن مكانة الدولة ومتانة اقتصادها لهما علاقة بما تملكه من أرصدة ومدخرات لا سيما الدول ذات الاقتصاد الريعي الذي يفتقر إلى التنوع ويعتمد على سلعة واحدة.
الدكتور السويلم يقدم عرضا لأصحاب الرأي كي يفكروا مليا في مصير الصناديق السيادية وكيفية تنميتها والحفاظ عليها كي تساعد في فصل المصروفات عن دخل النفط وتحقق في نهاية المطاف مصدرا دائما دون الاعتماد على دخل النفط.
قد يكون ما طرحه الدكتور السويلم يقدم علاجا آنيا سريعا للهبوط الحاد في أسعار النفط إلى أن يتم وضع خطط لتنويع الاقتصاد ومصادر الدخل بغية موازنة النفقات دون الاعتماد تقريبا الكلي على سلعة استراتيجية واحدة سعرها عرضة للتقلبات والهزات المتكررة.