رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


وهم القوة بين اكتسابها ووراثتها

صحيح أن الأجيال عبر التاريخ هي امتداد لما سبقها من أجيال، فجيلنا الحاضر امتداد للجيل السابق له؛ إذ لا شك أنه ورث منه بعض الأشياء، منها ما تمسك به، ومنها ما رفضه وتخلى عنه. ولعل السبب في ذلك يعود إلى اختلاف الظروف المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، كما أن الأجيال ترث من آبائها وأجدادها بعض السمات والخصائص الجسمية والنفسية والعقلية التي تتفاعل مع الظروف المحيطة مادية أو اجتماعية، وتسهم في تعديلها إما بصورة موجبة وإما بصورة سالبة.
نسمع كثيرا افتخار الأجيال المتأخرة بإنجازات توجد على أرض وطنها لم تنجزها هي، بل أنجزها الآباء والأجداد القدماء جدا. فعلى سبيل المثال برج بابل وقوانين حمورابي في العراق أو الأهرامات في مصر، هذه منجزات ضخمة أنجزت قبل قرون، وليس بالضرورة وجود صلة نسب بين من أنجزها وبين من يعيش على أرضها في الوقت الراهن، لكن الميل إلى التغني بهذه الإنجازات قوي لدى الشعوب، فتجد المصريين يشيدون بالأهرامات كأحد الإنجازات العظيمة التي صمدت على مدى التاريخ، على الرغم من أن لا أحد من السكان المعاصرين شارك في هذا الإنجاز، بل ربما أن الجيل الحالي دوره سلبي إزاءها.
تأملت في هذا الموضوع محاولا تفسير حالة التغني التي تتجذر لدى البعض، فألفيت أن شعور وهم القوة الذي يسكن في النفوس قد يكون تفسيرا نفسيا مناسبا، لكن هل هذا ميل بشري يوجد لدى كل المجتمعات والأعراق، أم أنه خاص في مجتمعات من دون غيرها، أم أنه يظهر في ظروف ويختفي في ظروف أخرى؟
العجز والفشل الذي يشعر به جيل لإخفاقه في إيجاد إنجازات تحسب له ويحفظها التاريخ، تجعله يعود إلى الوراء يقلب في صفحات التاريخ أو في المنجزات المادية، والحضارية، ويتعلق بها، وكأنه إنجازه دون غيره، ما يشعره بالارتياح وإثبات ذاته.
كثيرا ما نسمع على الألسنة أن أبي هو من بنى هذه العمارة، أو بنى هذا الجسر، أو اخترع هذا الجهاز، لكن الغائب في هذه الحالة أين إنجاز الابن نفسه، ولماذا أنجز الوالد، ولم ينجز الابن؟! نزعة العودة إلى منجزات الأجيال السابقة نزعة إنسانية ليست خاصة بمجتمع دون آخر، ولذا نجد المجتمعات تجعل من الرواد القدماء رموزا تدرس في كتب التاريخ، وتعرض في الأفلام، والقصص بهدف تثبيت هذه الرموز في الأنفس والعقول؛ لتتحول إلى قدوة للجيل الذي لم يشارك في تلك المنجزات.
القدوات ضرورية في أي مجتمع، ومن دونها تفقد الأجيال البوصلة التي توجهها الاتجاه الصحيح، إلا أن الإشكالية في ذلك تحول البعض إلى عالة يقتات على الرموز التاريخية في سمعتها وفي منجزاتها، دون أن تكون له إضافة أو بصمة تحسب له، حتى يتحول إلى مجتر غير مدرك للواقع ومتطلباته، وآليات تحقيق المتطلبات، بل منفصل عنه. نحن العرب والمسلمون تكثر لدينا عملية التغني بمنجزات الآباء والأجداد من مخترعات، ونظريات علمية، وفتوحات، وانتصارات ترتب عليها انتشار الإسلام في ربوع الأرض. وهم القوة ووهم الثروة يسيطران على الأفراد، وعلى المجتمعات، والأمم حتى مرحلة التخدر المضرة، لما لها من تأثير وقتي حين يتحدث الفرد عن المنجز الذي صنعه من سبق.
ولا يقل وهم الثروة في تأثيره في الأفراد، والمجتمعات، فما أكثر من انخدع بثروته وظن أنها كافية، وفجأة يجدها تبخرت، وليس لها وجود، فكم من فرد انغمس في الثروة حتى النخاع ثم ما لبث أن تحول إلى فرد فقير لا يجد ما يسد جوعه، وكم من مجتمع ثري في فترة من فترات التاريخ وفجأة ضرب الفقر أبوابه، ذلك أن القائمين عليه لم يأخذوا لهذا اليوم حسابه، واغتروا حينها بالثروة، ولم يعلموا أنها إلى زوال (وتلك الأيام نداولها بين الناس).
لا بد من معادلة دقيقة بشأن منجزات من سبقونا، تضمن توظيفها بما يحولها إلى دافع ومحفز للإنجاز والمشاركة فيه بدلا من دوره السلبي الذي يسلب الفرد الإرادة ويجعله مقتاتا وعالة على التاريخ.
القوة الموروثة مثلها مثل من يرث من والديه ثروة، ولسفهه يبعثرها يمنة ويسرة حتى يفقدها بالكامل؛ لأنه لم يحسن التعامل معها، ولم يستثمرها في المجالات التي تنميها، فمن لا يصنع قوته المادية والحضارية بنفسه، يعش في وهم حتى تدهمه الأحداث ويغرق داخلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي