رسالة الخطأ

  • لم يتم إنشاء الملف.
  • لم يتم إنشاء الملف.


التعليم وتفعيل جاهزية الطالب للمعرفة

لكل منظومة وظيفة تقوم بها، عبر أطراف تتبعها ونشاطات ترتبط بها، في إطار معطيات بيئة محيطة تؤثر فيها وتتأثر بها، ومقاييس تحدد مستوى أدائها، إضافة إلى تطلعات مستقبلية تسعى إلى تطويرها. وإذا نظرنا إلى "التعليم" كمنظومة نجد أن لها طرفين رئيسين هما: الطالب والمدرس. ونجد أن نشاطاتها الرئيسة تتمثل في نقل المعرفة من المدرس إلى الطالب، في إطار البيئة المتاحة، وتحفيزه على تلقيها واستيعابها، وربما الإبداع والابتكار في توليد أفكار وتطبيقات جديدة بشأنها.
وإذا بحثنا في مستوى أداء منظومة التعليم نجد أن هناك عوامل كثيرة تتحكم في هذا الأداء، تصعد به إلى النجاح المنشود أو تهوي به إلى ما لا تحمد عقباه. وترتبط هذه العوامل بمكونات منظومة التعليم المختلفة بما يشمل: أطرافها، ونشاطاتها، وبيئتها المحيطة. وسوف نهتم في هذا المقال بعوامل الأداء ذات العلاقة بمستوى جاهزية الطالب للمعرفة التي تؤثر على تلقيه لها، واستيعابه لجوانبها المختلفة، وإطلاق فكره للإبداع والابتكار فيها.
تكمن جاهزية الطالب للمعرفة، في أي مرحلة من مراحل دراسته، في ثلاثة أمور رئيسة. أول هذه الأمور "حماسه Enthusiasm" للمعرفة ورغبته في تلقيها، وفي ذلك جانبان: جانب الحماس العام للمعرفة عموما، وجانب الحماس الخاص للمعرفة في موضوع أو موضوعات محددة، ويختلف هذا الجانب بين شخص وآخر. وهناك أيضا أمر "عزيمة Grit" الطالب على النجاح في تلقي المعرفة المطلوبة على أفضل وجه ممكن، وعلى التوجه نحو الإبداع والابتكار بشأنها. ثم هناك أمر استعداد الطالب لبذل "الجهد Hard Work" اللازم لتحقيق النجاح المنشود. ولا شك أن لهذه الجاهزية علاقة بمكونات منظومة التعليم الأخرى المختلفة، بما في ذلك البيئة المحيطة.
وبقدر جاهزية الطالب للمعرفة تنطلق إمكاناته ومواهبه الذاتية، فهذه الجاهزية مفتاح للإمكانات والمواهب. كلما ارتفع مستوى هذه الجاهزية، ازداد بروز إمكانات الطالب وقدرته على النجاح والتفوق. والجوهر في هذا الأمر هو في تلك الطاقة الإنسانية التي ينتجها تفاعل "الحماس والعزيمة والجهد"، التي تحرك مكامن قوة الإنسان، وتطلق تميزه.
وقد طرحنا في مقالات سابقة موضوعات عن إمكانات الإنسان ومواهبه ومكامن قوته. وتطرقنا في ذلك إلى موضوع معايير "حصيلة الذكاءIntelligence Quotient: IQ" التي تشمل: "المهارة اللغوية؛ والرياضيات؛ والمنطق في التعامل مع المعلومات؛ والاستيعاب الفراغي ثلاثي الأبعاد". كما تطرقنا أيضا إلى نظرية "تعددية الذكاءMultiple Intelligence" التي تقول: إن هناك تسعة أوجه للذكاء وليس فقط ما طرحته معايير "حصيلة الذكاء". وتحدثنا أيضا عن مبدأ "العنصر The Element" الخاص في كل إنسان الذي يجعله متميزا في مجال محدد من المجالات عن أقرانه في هذا المجال.
بناء على الحقيقتين السابقتين: حقيقة أن في تفعيل جاهزية الطالب للمعرفة إطلاقا لإمكاناته ومواهبه، وحقيقة أن الإمكانات والمواهب موجودة في الجميع وتختلف بين إنسان وآخر، يمكن أن نصل إلى حقيقة ثالثة علينا الاهتمام بها. وتتمثل هذه الحقيقة في أن الاهتمام بتفعيل جاهزية الطالب للمعرفة، لدى جميع الطلاب وفي جميع المراحل التعليمية، والنجاح في ذلك، يطلق مكامن قوة إمكانات أبنائنا ومواهبهم التي تغطي شتى مجالات الحياة. وهذا ما نحتاجه للإسهام في تحقيق تطلعاتنا نحو بناء مجتمع معرفي قادر على العطاء.
وهناك، في إطار ما سبق، بحوث في أثر "العزيمة Grit" على الأداء المعرفي للطلاب في المدارس. ولعل أبرز هذه البحوث تلك التي تجريها مجموعة بحثية في "جامعة بنسلفانيا". وتقود هذه المجموعة البحثية الدكتورة "أنجيلا ديكورث Angela Duckworth". وبين هذه البحوث بحث يستند إلى استمارة تختبر مستوى العزيمة لدى الطلاب من خلال عوامل تشمل: الإرادة؛ والتركيز في العمل؛ وعدم الاستسلام للفشل؛ وبذل الجهود دون كلل أو ملل؛ ومتابعة الأعمال المطلوبة إلى نهايتها؛ وتقديم نتائج الأعمال على أفضل وجه ممكن.
تقول نتائج أبحاث "أنجيلا ديكورث" التي أجريت على حالات كثيرة أن هناك ارتباطا كبيرا بين "العزيمة والنجاح". وأن الطلاب الأكثر عزيمة يحققون نتائج أفضل من أقرانهم الأقل عزيمة، بما ذلك أولئك الذين تشير اختبارات "حصيلة الذكاء IQ" إلى تفوقهم. والسبب أن العزيمة أطلقت إمكانات ومواهب أصحابها، وأن غياب أو ضعف هذه العزيمة، أبقى إمكانات ومواهب الآخرين مكبوتة وكأنها لم تكن.
ولعله لا بد من التساؤل هنا عن كيفية تفعيل جاهزية الطالب للمعرفة، أي تفعيل "حماسه وعزيمته وجهوده" بشأنها. وفي إطار الإجابة عن هذا التساؤل، نعود إلى دراسة حديثة أجراها "المنتدى الاقتصادي الدولي WEF"، وإلى بحوث تجريها الدكتورة "كارول دويك Carol Dweck" الأستاذة في جامعة ستانفورد. وقد تطرقنا إلى كل من هذين الموضوعين في مقالات سابقة.
تطرح دراسة المنتدى الاقتصادي الدولي "16 مهارة" يطلب الاهتمام بها في التعليم لتحقيق الجاهزية التي يحتاجها الإنسان للتعامل مع متطلبات العصر. وبين هذه المهارات "مهارات الإنسان الشخصية" وتشمل: "الرغبة في التعلم وسعة الأفق في النظر إلى أمور العمل والحياة"؛ و"المبادرة والاستباقية والتقدم"؛ و"العزيمة والإصرار والقدرة على الاستمرار في العمل على تحقيق الأهداف التي يسعى الإنسان إليها". وتحمل هذه الدراسة "التعليم" مسؤولية تفعيل هذه المهارات.
وتهتم بحوث "كارول دويك" بتطوير "الحالة الذهنية Mindset" للطالب وتحويل "الحالة الذهنية الثابتة" لديه إلى "حالة ذهنية نامية". فالحالة الذهنية الثابتة تقيد تطور الإنسان وتحد من قدرته على إطلاق المبادرات والتجربة والخطأ وتقديم منجزات مفيدة؛ أما الحالة الذهنية النامية فتدعوه إلى أن يكون جاهزا للتحديات وبناء الخبرات والاستفادة منها. وترى هذه البحوث دورا مهما للتعليم في بناء "حالة ذهنية نامية لدى الطلاب" بما يجعلهم أكثر قدرة على التعامل مع قضايا الحياة.
لا نريد لمنظومة "التعليم"، في جميع مراحله، أن تكون فقط ناقلا لمعرفة المناهج التعليمية من المدرس إلى الطالب، بل نريد لها أيضا أن تبني "السلوك المعرفي" لدى الطالب، سلوك الحماس للمعرفة، والعزيمة على تلقيها والاستفادة منها، والإبداع والابتكار في مجالاتها المختلفة، وبذل كل جهد ممكن في سبيل ذلك. فالتجدد المعرفي الذي يشهده العالم في هذا العصر لم يعد يقبل الحالة الذهنية الثابتة، بل يريد حالة ذهنية نامية تتمتع بجاهزية معرفية متجددة ومتطورة باطراد. فإذا كنا نسير بالفعل على هذا الطريق، فنحن إذا على الطريق الصحيح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي