3 وقفات مع برنامج إعداد القادة

سعدت جدا عندما قرأت خبرا مفاده أن الصيف الماضي قد تم استثماره لتدريب قادة المستقبل في جامعة هارفارد التي تعد من أعرق الجامعات كما هو معلوم. فكما صرح المشرف على البرنامج أن البرنامج يعكس رؤية واهتمام ورعاية الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي ولي العهد النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع رئيس مجلس إدارة مؤسسة مسك الخيرية في تحقيق كل ما من شأنه خدمة شباب الوطن وحرصه عليهم.
تعاون "مسك" مع جامعة هارفارد عبر برنامج إعداد القادة خطوة لا شك في إيجابيتها وسينعكس أثرها على إعداد قادة سيسهمون في تنمية البلد في مجالات مختلفة بإذن الله. فالإعداد السليم والتأهيل العملي من أهم مقومات نجاح قادة المستقبل.
لدي ثلاث وقفات مع الدورات العلمية التي تقيمها جامعة هارفارد لكوني أحد من حضرها، ولعلي في نهاية المقال أعرج على بعض التحديات المهمة.
الوقفة الأولى: قد لا يعي البعض أن قبول حضور بعض دورات جامعة هارفارد ليس قبولا مباشرا بتسديد رسوم الدورة كما هو واقع معظم الدورات وإنما يتطلب من المتقدم أن يعرض ملخصا يوضح من خلاله أهمية الدورة بالنسبة له سواء كان أكاديميا أو علميا مع موجز لسيرته الذاتية، كما يحتاج أيضا إلى تقديم عرض لبحث أو مشروع مرتبط بموضوع الدورة من أجل التأكد من أن حضورها مفيد ليس للمشارك فيها فقط ولكن لمعرفة مدى قدرته على إثراء الحوار أثناء الدورة.
بعض الدورات يتطلب من المتقدم قراءات علمية مسبقة عن محتوى الدورة قد تصل في كثير من الأحيان إلى أكثر من 100 صفحة. هذه القراءات مهمة لاستيعاب الموضوع ومحاوره المختلفة وهي بمثابة الأرضية الأساسية لكل من يحضر الدورة. كما أن هناك قراءات يومية قبل كل محاضرة لأن من يدير الدورة لا يقدم المعلومات كتلقين وإنما كمحاور للنقاش والحوار. لذا فإن القراءات الشخصية مهمة جدا للانخراط في فهم النقاشات اليومية.
الوقفة الثانية: في كثير من الأحيان تصاحب دورات جامعة هارفارد مشاركة أعضائها في إلقاء موضوع متعلق بأحد محاورها، وكيف يمكنه الاستفادة منها عبر إجراء بحث مبسط يعكس تطبيقا عمليا لمحتوى الدورة في بيئة عمله. لذا يتم تخصيص مستشارين داخل الدورة يساعدون على تحقيق هذه الغاية. كما أنه في بعض الدورات يتم تقسيم الحاضرين لعدة فرق صغيرة بإشراف أحد مدربي الدورة، ويُطلب من كل مجموعة أن تناقش أوراقا علمية أو كتابات مختلفة حول موضوع الدورة بشكل يومي، إضافة إلى فرق أخرى يلتحق بها المتقدم تسهم في التأكد من أن ما تم تقديمه من خلال الدورة يمكن الاستفادة منه لتطوير البحث الذي قدمه كل متقدم للدورة قبل التحاقه بها.
الخلاصة أنها دورات متعددة في دورة واحدة لتحقيق أهداف محددة. لذا فبعض الدورات قد يصل عدد أساتذتها قرابة 20 مدربا أساسيا ومساعدا.
الوقفة الثالثة: دورات جامعة هارفارد لا تتميز بمحاضريها أو مادتها العلمية أو بطلابها أو الوسائل المستخدمة لتقديم المادة العلمية فيها، دورات جامعة هارفارد تتميز بأنها خليط من كل هذه الأسس الكفيلة بنجاح أي برنامج تدريبي تقيمه الجامعة خصوصا أنها تقدم منهجا علميا لطريقة عملية.
وبحكم معرفتي ببعض الزملاء ممن تلقى التدريب في الجامعة، فإن البعض يرى أن الاستفادة من برامج هذه الجامعة العريقة قد تصطدم على المستوى المحلي مع بعض المتنفذين داخل دوائرنا الحكومية الذين هم في الغالب ضد تطوير المنشآت لأسباب متعددة سواء كانت مصالح شخصية أو معرفية أو غيرها، لذا قد ينحصر تأثير هذه الدورات المكلفة ماليا في الإثراء المعرفي لمن حضرها وكتابة سطر في سيرته الذاتية بحضورها.
ومما يميز هذه الدورات، أن الجامعة تتواصل مع المتدربين حتى بعد الانتهاء منها لقياس الأثر الحقيقي للدورة ليس في المستوى المعرفي وإنما مدى إسهامها في تطوير المنشأة التي يعمل فيها المتدرب. لذا فمن يحضر مثل هذه الدورات أمامه خياران خصوصا إذا لم يكن في موقع صناعة القرار فيها:
الأول: التصادم مع بيئة العمل ومحاولة التغلب عليها مما يقود في كثير من الحالات لصراع مع بعض المتنفذين داخل تلك الدائرة أو المصلحة الحكومية. وهذا خيار غير محبب للنفس إطلاقا كما أنه لا يحقق مصلحة حقيقية للمنشأة التي يعمل فيها.
الثاني: مداراة متنفذي تلك الدائرة وتغليب المصلحة الشخصية على مصلحة العمل، واعتبار أنها دورة تضاف كسطر في سيرته الذاتية وليس بالضرورة تحقيق مصلحة للمنشأة التي يعمل فيها. لذا فهذا الخيار يغلب تحقيق التكيف مع بيئة العمل على تحقيق تغيير حقيقي إيجابي على المنشأة.
قد تكون هناك خيارات أخرى أكثر اعتدالا من الخيارين السابقين. فمثلا قد يكون هناك خيار يتوسط بين الخيار الأول والثاني بمعنى أن يعمل توازنا بين الاصطدام وبين تحقيق مصلحة العمل. لكن هذا الخيار سيعتمد على مدى قدرة ومهارة المتدرب في إحداث توازن بين الرغبة في تطوير المنشأة و مداراة بعض التنفيذيين في تلك الدائرة ولعل بعض الدورات تساعد على تحقيق هذه الغاية.
كما أن هناك سيناريوهات أخرى أكثر إيجابية كأن يدعم هذا المتدرب في تنفيذ ما يريد عمله دون عوائق وهو السيناريو المحبب للنفس والمأمول، لكنه سيناريو ضعيف في ظل بيئة العمل الحكومي التي تغلب عليها ثقافة تغليب المداراة على تحقيق مصلحة المنشأة بدليل محدودية التطوير في دوائرنا الحكومية. هذه الحقيقة يدعمها توجه الدولة أخيرا للاستعانة ببعض الكفاءات العاملة في القطاع الخاص. ولعله أن تتاح لي الفرصة للتطرق إلى هذه الحقيقة بمزيد من التفصيل لاحقا.
ختاما آمل أن يكون التخطيط ليس فقط في تطوير المهارات المعرفية سواء في جوانب القيادة أو غيرها ولكن في كيفية إيجاد البيئة المناسبة لتطبيق وتطوير القطاعات الحكومية المختلفة لأن الدوارات مجرد أدوات للتطوير، لكن التطوير الحقيقي يكمن في إيجاد البيئة المناسبة لها مع الاستثمار في الإنسان القادر على التنفيذ.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي