رجال الأعمال هم المشكلة في منطقة عسير
رغم أن الشركات ورجال الأعمال يعملون على جعل الحياة صعبة في عسير، لكني أعشق كل زاوية فيها وكل وادٍ وسحابة مرت فوق جبالها، وأحمد لله على ذلك، هكذا تعلمت أن أعشق هذا الوطن بكل مدنه وزواياه مهما كانت الظروف، ولقد عشت زمنا في مدينة الرياض وعشقتها رغم الازدحام وحرارة الصيف. لست أبالغ في أن مشكلة منطقة عسير في رجال الأعمال، فهناك من الأمثلة الحية الكثير ولدي اليوم غيض من فيض. ولأننا في الصيف فسأشير إلى مقطع انتشر حول ما تفعله شركات النظافة في متنزهات عسير التي حولتها إلى كارثة، رغم أن الدولة وفرت كل الدعم لهذه الشركات وعقودا خيالية لا تحلم بها شركات مماثلة في دول قريبة منا، تحولت إنجازات الدولة ومشاريعها في المتنزهات بسبب رجال الأعمال إلى مستودعات مغلقة لهم ولشركاتهم، وتحولت دورات المياه إلى مرمى نفايات، والمهرجانات إلى تصريف سلعهم الرديئة، وتلوثت سماء المناطق السياحية وأشجارها بغبار دباباتهم، وانعدم سحر الهدوء مع نسمات الصباح هناك.
شركات الطيران حولت مطار أبها إلى موقف حافلات، فتحرير سوق الرحلات الجوية لم يقدنا إلا إلى احتكار وسيطرة انتقلت معها أسعار التذاكر من 280 ريالا للدرجة الاقتصادية حتى تجاوزت 1000 ريال، وألغيت منا الدرجة الأولى، ولم تعد هناك قاعات لرجال الأعمال بل غرف لا نعرف لمن وكيف أصبحت لهم. الدخول فيها بسعر خاص خارج قيمة التذاكر، حتى وأنت ترضى وتجلس في صالة المطار وعلى كراسي غير مريحة تماما في مطار صغير مزدحم، تسأل نفسك لماذا تهورت ودفعت في مقابل هذا الكرسي أضعاف الذي دفعه رجل بجانبي؟ ففي مطار أبها أصبح الفرق بين درجة الأعمال والدرجة الاقتصادية ستارة من قماش في الطائرة تغلق بعد الإقلاع ولمدة ثلث ساعة فقط، وعليك أن تتحمل نظرات الناس وتهكمهم عليك "دفع أكثر من 800 ريال من أجل ستارة وفنجان قهوة". ليس هذا فحسب بل لا يمكنك أن تختار مقعدا وثم تستطيع أن تجلس فيه، والحجز تحول إلى مأساة كاملة، حتى ظهرت لنا سوق سوداء في "تويتر" والحجز لديهم بسعر خاص، والعجيب أنهم يدعون قدرتهم على تنفيذ الحجز مهما كانت الرحلات مغلقة، بينما شركات الطيران تلتزم الصمت. ومقارنة بخط ملاحي مماثل وهو جدة الرياض تجد الفرق شاسعا، فهناك الدرجة الأولى وهناك قاعات رجال الأعمال الخاصة والوثيرة، وهناك 24 رحلة يوميا والتذكرة لا تتجاوز 350 ريالا، وإحساسك بدرجة الأعمال مختلف تماما من دخولك المطار واستكمال أوراق الرحلة وحتى خروجك منه. وللحق أصبحت أكره السفر بسبب شركات الطيران، لكنني أعشق عسير.
رجال الأعمال هم مشكلة عسير الأولى والقديمة، حاول الأمير خالد الفيصل حلها، عقد لأجلها المؤتمرات ومد رجال الأعمال بالتسهيلات وبنى صرح منتجع أبها الجديدة، تشجيعا لهم وتأكيدا على مبادرته، ثم جاء الأمير فيصل بن خالد، وبذل وما زال يبذل جهوده لتقديم الخدمات والتسهيلات للمستثمرين ورجال الأعمال، حتى ألغى كل إشارات المرور والمطبات الصناعية وبنى أنفاقا وجسورا عظيمة، ولكن "لقد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي". ففي القطاع الصحي تعاني المنطقة جحود رجال الأعمال في بناء مستشفيات حقيقية، وهناك من يدعي زورا أن لديه مستشفى لكنه انتهى إلى عيادات تخصصية سميت بالمستشفيات تضليلا، عيادات عمادها أطباء استشاريون مواعديهم وأسعارهم أغلى من أسعار ومواعيد المستشفيات الأمريكية المتخصصة في الأمراض المستعصية، ولا رقيب عليهم ولا حسيب ولا سياسات ولا إجراءات ولا جودة ولا مراجعة داخلية ولا إدارة للمخاطر "كل استشاري يقدح من رأسه" حتى غدت عملية بسيطة تكلف أكثر من مائة ألف ريال، الطوارئ لا تتجاوز مساحة الصالة والمطبخ في شقة صغيرة من شقق شمال الرياض، الأشعة متاهات تحت الأرض والمصعد معطل، ثم يقال وبتمنٍ إن هذا مستشفى، والمستوصفات حدث ولا حرج، لكن باختصار هي مبان قديمة متهالكة أو شقق مفروشة تحولت فجأة إلى مستوصف، حتى أصبح المرض أحب من زيارة طبيب في مستشفى خاص، لكنني أعشق عسير.
لا يزال التعليم الأهلي مترديا، مدارس عبارة عن مخلفات مبان وليست مباني، بل إن مستأجرات إدارة التعليم أفضل منها بمراحل فهي مجانية على الأقل، النقل عندهم مأساة، كل هذا وأكثر من إهمال رجال الأعمال المنطقة رغم كثرة الغرف التجارية وتجارها، والمصارف وفروعها والشركات المساهمة العملاقة والتنفيذيين فيها. فصرافات المصارف إزعاج مستمر، ولا تكاد تجد صرافة للمصرف الذي تتعامل معه إلا بشق الأنفس، وإذا قارنت عدد أجهزة الصراف بعدد أجهزة التصوير وسيارات "ساهر" تجد الفرق مذهلا، ففي كل ثلاثة كيلومترات تقريبا هناك جهاز تصوير لـ "ساهر"، إما مثبت وإما في سيارة مخصصة، لست أبالغ في ذلك وأتمنى من القراء تجربة عدد أجهزة "ساهر" مقارنة بأجهزة الصراف، ومقارنة عدد المصارف التي وفرت أجهزة صراف بعدد المصارف العاملة في المنطقة، فضلا عن تلك العاملة في المملكة عموما.
لست في هذا المقال أتجنى على رجال الأعمال، فالمولات والأسواق الكبيرة والفنادق وقاعات المؤتمرات والاجتماعات والمقاهي والمطاعم الراقية والمتخصصة كلها غير موجودة، بل قد لا تستغرب إذا وجدت أحد هذه المقاهي المشهورة في طريق صحراوي، بينما لن تجده في مدينة سياحية كبرى كأبها أو خميس مشيط. وأتمنى زيارة من مجلس الغرف التجارية للوقوف فعلا على وضع رجال الأعمال والاستثمار ونوعيته في المنطقة، لا بد لما يحدث من سبب وجيه، لا بد للعزوف عن الاستثمار من حل. أبناء المنطقة في حاجة إلى فرص عمل، والوطن في حاجة لهم للبقاء في المنطقة، وآباؤهم في حاجة لهم أيضا، والمجتمع في حاجة إلى إيقاف الهجرة إلى المدن الرئيسة، ولقد قدمت الدولة تسهيلات هائلة، وهناك جامعات كبرى في المنطقة، وتعداد سكاني كبير، ومستشفيات حكومية كبرى وقواعد عسكرية، وطرق تتوسع باستمرار. نعم لا تزال المنطقة في حاجة إلى ميناء جاف، وفي حاجة إلى سكة حديد وتطوير المطار والنقل البري، لكن الحاجة أم الاختراع، إذا أثبت رجال الأعمال جديتهم في الاستثمار، ووجدت الدولة أن الجدوى من إنشاء هذه المشاريع واضحة، عندها لن تتردد. هذا ما أظنه.. ولي مع هذا مقال آخر، والله أعلم وهو من وراء القصد.