جامعاتنا والتصنيفات الدولية «2»
تطرقت في مقال سابق للتصنيفات الدولية للجامعات والتقرير الذي تم نشره في صحيفة الحياة، الذي بين غياب جامعاتنا السعودية عن المراكز الـ500 الأولى في التصنيف الصادر أخيرا عن مركز التصنيف العالمي للجامعات (cwur)، حيث اكتفت جامعة الملك سعود باحتلال المركز الـ569 عالميا من ضمن 1000 جامعة، فيما جاءت جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في المرتبة الـ704 عالميا والثالثة عربيا، فجامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المرتبة الـ847 وجامعة الملك عبدالعزيز الـ995. ومثلما جرت العادة حلت الجامعات الأمريكية في المراتب الثلاث الأولى، إذ جاءت جامعة هارفرد أولا، وستانفورد في المرتبة الثانية، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ثالثا، فيما حلت الجامعتان العريقتان في المملكة المتحدة كامبريدج وأكسفورد في المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي. ولم تسجل الجامعات العربية أي مراكز متقدمة في هذا التصنيف، إذ جاءت أربع جامعات سعودية ومثلها مصرية في قائمة الألف جامعة.
وقد ذكرت أن هناك من يسعى لتصعيد هذه البيانات من أجل أن يحرج جامعاتنا ليستثمرها لإدراكهم من تحرج جامعاتنا من عدم دخولها أو احتلالها أي تصنيف في أي معيار دولي أو حتى إقليمي. وقد تبين لنا كما تبين لهم كذلك أن الجامعات السعودية دون غيرها هي التي تأخذ هذه التصنيفات مأخذ الجد دون أن تسعى إلى تصحيح أوضاعها وتريد أن تقفز بين عشية وضحاها من ذيل القائمة إلى أعلى عشر جامعات حول العالم. وذكرت أيضا أننا نتمنى على جامعاتنا - وهي قادرة بإذن الله - أن تقف مع الذات وتتحرى المصداقية وتستفيد من الأموال التي بين يديها لبناء جامعات بمعناها الحقيقي وأن تبتعد عن البهرجة الإعلامية واللهث وراء التصنيفات الدولية التي أبعدتها عن رسالتها وتحقيق أهدافها، بل سببت لها حرجا شديدا.
وفي هذا المقال أريد أن أستكمل النقاش وأبين وجهة نظري حيال الآليات التي ينبغي أن تنهجها جامعاتنا كي تعود إلى صوابها وترضى بقدراتها وتكف عن منافسة العملاقة حتى يكتمل بناؤها ويصلب عودها وتعتمد على مواردها. أولا وقبل كل شيء عليها أن تركز على تطبيق معايير الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي والمعتمدة من قبل الوزارة وأن تستمر في خططها حتى تصل إلى أهدافها وهذا يحتاج إلى عمل دؤوب لعدة سنوات، بل عقود، فمتوسط عمر جامعاتنا بضع عقود مقارنة بالجامعات المتربعة على قمة المعايير الدولية التي يبلغ متوسط عمرها قرنا ونصف القرن.
يجب أن تدرك مؤسساتنا الأكاديمية أن الجامعات التي احتلت المراكز المتقدمة في التصنيفات الدولية لها باع طويل في تقديم التعليم الجامعي لقرون مضت فهارفرد وستانفورد وأكسفورد وغيرها تعدت مرحلة القياس ولهذا فهي غنية عن التجربة وهي فوق أي معيار، بل هي التي تؤسس للمعايير الأكاديمية. فمن الظلم أن نقبل التحدي معهما ونساوي مؤسساتنا الأكاديمية التي لم يتعد عمرها بضعة عقود بهذه الصروح العملاقة ولكن ليس معنى هذا أننا لن نستطيع المنافسة في يوم من الأيام، بل لدينا القدرة على ذلك ولكن هذا يحتاج إلى وقت وصبر وخطط وأهداف وعمل أكاديمي مهني حقيقي.
ينبغي أن تدرك جامعاتنا أيضا أن هناك بنودا في تلك المعايير قد لا تناسب مؤسساتنا الأكاديمية، لأنها صممت في بيئات مختلفة، فالمعايير التي نراها في بعض هذه التصنيفات تأخذ في الحسبان بعض النواحي الثقافية والبيئة، التي تختلف بطبيعة الحال عن بيئتنا العربية والسعودية. كما أن تلك الجامعات هي التي وضعت تلك المعايير أو على الأقل تشرف عليها من بعد ولهذا فهي تمسك بأدوات القوة والصدارة نتيجة الخبرة والممارسة. ولكن ليس معنى هذا أنها لا تقدم العلمية التعليمية كما يجب ولا تقوم بوظائف الجامعات، كما ينبغي، بل هي كذلك ولكن أصبحت تؤديها بعفوية وكجزء من جوهرها.
على جامعاتنا بدلا من محاولتها دخول تنافس غير متكافئ أن تتعلم من تلك المؤسسات بعدة طرق منها محاولة المواءمة بين بعض الأقسام وبين تلك الأقسام في تلك الجامعات وأن تتخذ لها وجهة تكون هي الهدف القريب ثم تنطلق على سجيتها. وحتى تتضح هذه النقطة دعوني أضرب مثالا واقعيا. وستانفورد على سبيل المثال أخذت من هارفرد وجهة لها ووضعت وصاغت رؤيتها في العبارة التالية "هارفرد الغرب" من أجل أن تعرف من أين تبدأ وإلى أين تريد أن تصل؟
وقد استعانت بكل الآليات والاستراتيجيات التي استخدمتها هارفرد وبعد ستين عاما ها هي ستانفورد تنافس هارفرد بشراسة، فقد أصبحت ضمن العملاقة وها هو اسمها ضمن الجامعات الخمس في العالم فقد احتلت المرتبة الثانية ولكن بعد ستين عاما من العمل المتواصل والرؤية الواضحة. ستانفورد لم تلجأ إلى أقصر الحلول ولم تستعن بأساتذة هارفرد الحاصلين على جائزة نوبل من أجل أن ترفع تصنيفها، بل عرفت الطريق بوضوح منذ البداية وعملت بجد ولم تستعجل النتائج ولا الخطى.
واتخاذ وجهة وتحديد الرؤية ليس مقتصرا على الجامعات، بل المنظمات والدول أيضا فها هي ماليزيا لم تبدأ نهضتها حتى أخذت لها وجهة ونموذجا تحتذي به. وقد استغرقت وقتا لتحديد الوجهة وقلبت الأمور وقد كان لها وجهتان يتعين أن تختار بينهما اليابان أو كوريا. وقد رأت أن اليابان لا تناسبها في الأمد القصير وليست الصورة أو الرؤية القريبة لها لعدة اختلافات ليس هذا مكان مناقشتها، فاتخذت كوريا قبلة لها ونموذجا تتبع خطواته في مجال التنمية.
وأخيرا يجب أن نكون أكثر وعيا ولندرك أن هناك من يصطاد في الماء العكر ويريد أن يستغل هلع وتشوق جامعاتنا إلى التصنيفات فيغازلها بعد كل تصنيف من بعد ويقدم خدماته من أجل تحسين وضعها في التصنيفات الدولية بهدف الظفر ببعض المال فهو يعرف بالضبط ميزانيات الجامعات والأموال الهائلة في حسابات جامعاتنا.