دولة بلا علامات «التأنيث»
دول شمال أوروبا غنية عن التعريف. فهي ليست أكثر الدول تطورا وعلما وثراء ورقيا في العالم، بل أجودها وأنداها في ممارسة وتطبيق بعض المفاهيم والأفكار الإنسانية في مقدمتها تأتي المساواة.
شعوب هذه الدول، وتأتي السويد في مقدمتها وبعدها النرويج والدنمارك وفنلندا وآيسلندا، ربما لا شغل لها إلا التحدث عن المساواة في مظاهر الحياة كافة.
رغم أنها قد حققت تطورا مذهلا في تطبيق المساواة من جميع الأوجه وفي أغلب النواحي، إلا أن الناس في هذه المنطقة الأكثر رقيا في العالم أخذت تذهب بعيدا جدا في سعيها لتحقيق التعادل والتساوي بين الناس باختلاف ميولهم وأجناسهم ومذاهبهم وأديانهم.
المساواة لم تعد فكرة أو مبدأ أو مسألة مناقشة. الناس هنا لا تعمل ولا تدير الحياة انطلاقا من الثقة والشرف و"الرجولة" والأخلاق الدينية وما يقوله أو يفتي به أشراف القوم أو رجال دينهم.
ما يحدد الخلق السليم بالنسبة للمجتمع هو القانون. لا تستطيع محاسبة أي شخص إن لم تستند إلى نص قانوني وتستشهد به وتقدم من خلاله الدليل المادي لحدوث انتهاك له كي تستطيع محاسبة مخالفة ما.
القوانين في هذه البلدان مكتوبة وقد ينتابك الهلع لأول وهلة وأنت تلقي بناظريك على الكتاب السميك والغليظ الذي يضمها. كل سنة هناك نسخة جديدة منه وآخر نسخة قاربت خمسة آلاف صفحة عدا الملحقات. كل طالب قانون ومختص في القانون يملك آخر نسخة وطلبة كليات الحقوق في الجامعات يبدلون نسخهم بنسخ جديدة في كل سنة أكاديمية جديدة.
ومواد المساواة ربما تأخذ الحيز الأكبر في الكتاب الثخين هذا. وِلمَ لا، حيث لا يمضي يوم إلا وكان للسويديين مثلا "تقليعة" جديدة في عالم المساواة وطلب جديد للبرلمان لتشريع قانون فيها.
والقانون يتبعه الشرح والتفسير والهوامش وما يطلق عليه "السبق" و"المتقدم" من قرارات وأحكام قضائية لغرض القياس من أجل فرض ضوابط وتوازنات قضائية رقابية كيلا ينفرد شخص أو هيئة بقرار قطعي إلا بعد مراجعة مستفيضة.
ولكن ما هو الإشكال في مبدأ المساواة كي تتحول إلى "تقليعة"؟ وهذا وصف شخصي لا أظن أن الناس هنا ستقبل به، لا بل ستستهجنه وتدين صاحبه.
تحقيق المساواة غاية نبيلة وهذه المجتمعات تمارسها في حياتها ومن خلال قوانينها وفي سياستها الداخلية. وهنا أؤكد على عبارة "الداخلية" لأن لا مساواة ولا نزاهة ولا عدالة في سياسة هذه الدول الخارجية ولا هم يحزنون. السياسة الخارجية برمتها لهذه الدول والدول الغربية بصورة عامة أساسها المنفعة وأولها المنفعة وآخرها المنفعة.
ولكن عندما تنتقل المساواة إلى تفاصيل مملة عندها قد تنقلب إلى شيء من "الترف". وهذا ما يحصل الآن حيث بتنا كأكاديميين وصحافيين وكتاب نرصد ونراقب ما ننطقه ونكتبه كيلا نقع في الخطأ.
اللغة السويدية ــــ وهي ذات منشأ جرماني ـــ تفتقر أساسا إلى علامات وأدوات التذكير والتأنيث عدا ضمائر محددة، عكس العربية تماما، حيث أغلب الصفات والأسماء لها دلالة تؤشر إلى الجنس من خلال علامات التأنيث والتذكير.
فالطبيب والمدرس والمهندس والجندي والضابط مثلا لا تدل على الجنس في كثير من اللغات ومنها السويدية لأنها قد تشير إلى المذكر والمؤنث في آن واحد. ولأن الرجل بصورة عامة يستحوذ على السلطة والمرأة تابعة في المجتمعات التقليدية المحافظة، كما كان حال المجتمعات في شمال أوروبا قبل عدة عقود، فإن الناس أو النشطاء بينهم وحتى العلماء ينسبون التميز ضد المرأة في اللغة إلى سطوة الرجل.
وصل أمر المساواة في هذه الدول إلى اعتبار أن كل ما يميز بين المذكر والمؤنث في اللغة هو جزء من التحيز والمحاباة لمصلحة الرجل وإجحاف في حق المرأة. اليوم هناك حملة في السويد، قد حققت نجاحا باهرا، تدعو إلى إلغاء ضمير المذكر ومشتقاته "هو" وضمير المؤنث ومشتقاته "هي" واستنبطوا ضميرا جديدا يستوي فيه المذكر والمؤنث وصار شائعا وأحيانا كثيرة ملزما.
وإن أتينا على ذكر اسم يستوي فيه المؤنث والمذكر "الطبيب أو الباحث أو العالم" صار لزاما علينا الإشارة إليه بضمير الجمع أو ضمير المؤنث أو أي علامة من علامات التأنيث الأخرى تحقيقا للمساواة وإنصافا للمرأة بعد قرون وقرون من اضطهاد اللغة لها.
وإن كان هناك في اللغة أسماء خاصة للمذكر وأسماء خاصة للمؤنث "مثلا شرطي وشرطية، عامل وعاملة" فقاموا بالبحث واستنباط مفردات يستوي فيها الاثنان لتحقيق المساواة والعدالة.
وآخر "تقليعة" لغوية من أجل تحقيق المساواة وقعت في جنوب السويد حيث تم ابتكار وابتداع مصطلحات جديدة وتدريسها وتلقينها للأطفال عند التحاقهم بالروضة وهذه تخص كل ما يراه مناصرو المساواة بين الجنسين أنه مسيء من وجهة الجنس الآخر.
كل اللغات تقريبا، وهذه حقيقة علمية، تنتقص من قيمة المرأة لا سيما عند الإشارة إلى الأعضاء التناسلية. اليوم هناك حملة لتغيير هذه النعوت إلى مفردات لا تثير أي استخفاف بالجنس الآخر.
وآخر مقالة قرأتها في هذا الشأن وردت في صدر صحيفة "الجارديان البريطانية" الشهيرة التي يتصفحها ورقيا وإلكترونيا أكثر من 40 مليون قارئ في اليوم عما يدور في السويد من حملة لاستقصاء أي مفردة أو إشارة في اللغة يرى الناس أنها تستخف بالمرأة حتى في اللغة العامية.
هل هذا النوع من "البطر" اللغوي جزء من "بطر" المساواة، بعد الهدر والبذخ والبهرجة في الأمور المادية والدنيوية التي تنتاب مجتمعات الرفاهية هذه؟
حقا لله في خلقه شؤون.